الأربعاء، 4 مارس 2020

هل القرارات الأممية مُسيسة؟ مرض كورونا مثالاً


معظم القرارات التي تُتخذ على مستوى المجالس والمنظمات والهيئات والاجتماعات التي تعمل تحت مظلة الأمم المتحدة تكون في العادة مسيسة، أي أنها في نهاية المطاف لن تخرج عن عباءة الدول المتقدمة الكبرى، ولن تتعارض مع مصالحها القومية، ولن تؤثر على حكومات هذه الدول المهيمنة على الشأن الدولي العام، ومن يقل غير ذلك فهو جاحد وكافر بوقائع التاريخ المعاصر، أو أن الله قد ختم على قلبه فلا يفقه الحقائق ولا يستوعب الشواهد، أو جعل على بصره غشاوة سوداء فلا يبصر ولا يرى، أو فقد إذنه فهو لا يسمع ولا يميز بين الصح والخطأ والحق والباطل.

وهذه الحقيقة تنطبق إلى حدٍ كبير على معظم المجالس والمنظمات والوكالات التابعة للأمم المتحدة، سواء أكانت تعمل في مجال السياسة العامة، أو في مجال البيئة، أو في مجال حقوق الإنسان، أو في المجال الصحي.

ومن أشد هذه المجالس وضوحاً وضوح الشمس في قارعة النهار في اتخاذ القرارات المسيسة التي لا تقف مع الحق، ولا تساند العدالة العامة للشعوب، ولا تدافع عن المظلومين، ولا تأخذ بيد المستضعفين والمحرومين على مدار عقود طويلة من الزمن هو مجلس الأمن، وبالتحديد بالنسبة للمواقف والقرارات ذات العلاقة بالقضية الفلسطينية، وهذه حقيقة لا غبار عليها ولا خلاف فيها بين الناس.

فعلى سبيل المثال لا الحصر، هناك ما يُعرف بحق النقض، أو حق الفيتو، وهو حق يُعطِي الدول الكبرى الدائمة العضوية السيادة المطلقة في قتل وإجهاض أي قرار أممي يُتخذ، حتى ولو كان بإجماع باقي الدول، فهذه الدولة الواحدة لها القدرة الكاملة على إلغاء وإبطال هذا القرار، حيث إن الولايات المتحدة وحدها أجهضت واستخدمت حق الفيتو 43 مرة فقط لمنع أي قرار يدين الكيان الصهيوني ويُعفيه من الجرائم والمخالفات الدولية التي يرتكبها كل عام طوال العقود الماضية، بدءاً من 26 يوليو 1973، ثم في عام 1982 الذي استخدمت فيه أمريكا هذا الحق الباطل سبع مرات في ذلك العام فقط حتى آخر فيتو في 18 ديسمبر 2018 .

والمنظمات الأخرى للأمم المتحدة تسير على هذا النهج، ولكن بدرجةٍ ربما أقل وضوحاً من مجلس الأمن، ولكنها جميعاً تجامل الدول القوية ذو النفوذ والسيادة والسلطة على المستوى الدولي، وتتملق الدول الأكثر إسهاماً ورعاية من الناحية المالية والإدارية لهذه المنظمات الأممية، ولا تتمكن في نهاية المطاف من تبني القرار الذي لا يتوافق مع مصالح الدول العظمى، أو في بعض الأحيان أهواء ورغبات التكتلات الدولية السياسية والاقتصادية.

أما من ناحية المنظمات والوكالات الصحية التابعة للأمم المتحدة، فعلى رأسها منظمة الصحة العالمية التي هي الذراع الصحي المعني بصحة البشرية على كوكب الأرض، فهذه المنظمة أيضاً تقع بشكلٍ أو بآخر بصفة مباشرة أو غير مباشرة تحت عدوى تسييس القرارات الصادرة منها، وبخاصة أنها تضم معظم دول العالم، مما يعني تضخم العمل الروتيني اليومي وتعمق البيروقراطية عند اتخاذ القرار.

وهناك عدة دراسات أُجريت للإجابة عن هذا الاستفسار، والنظر في وجود القرارات الصحية المسيسة الصادرة من منظمة الصحة العالمية. فقد اطلعتُ على مجموعة من الدراسات تحت عنوان "سياسة الأمراض الوبائية"، أو "السياسات الصحية على المستوى الدولي"، ومنها مجموعة من البحوث منشورة في مجلة "التنمية" في يونيو 2004 لسبر غور ما إذا كانت السياسة تلعب دوراً عند تصنيف المرض كوباء على المستوى المحلي والقومي أو على المستوى الدولي، إضافة إلى الدراسة المنشورة في الثالث من سبتمبر 2018 في مجلة "الرعاية الاجتماعية الدولية" تحت عنوان:" سياسة الأمراض الوبائية: دراسة تحليلية مقارنة لمرض سَارسْ وزِيكا وإيبُولا". وجميع هذه الدراسات تُوحي إلى أن القرارات الصحية التي تَصدر في حالات الوباء على المستوى القومي، أو الوباء المستوى الدولي في أروقة منظمة الصحة العالمية لا تخلو كلياً من التسييس والأخذ بعين الاعتبار وضع الدولة التي وقع فيها الوباء وقوة ونفوذ هذه الدولة على المستوى الدولي عامة وعلى مستوى المنظمة خاصة، إضافة إلى أن الكثير من الاستشاريين والفنيين الذين يُقدمون التوصيات لمنظمة الصحة العالمية يكونون في الوقت نفسه يقدمون النصح والاستشارة لشركات الأدوية والعقاقير التي تجزل لهم العطاء والمكافئات، مما يشير إلى أن توصياتهم لا بد وأنها تخدم مصالح هذه الشركات وترعى همومهم وشؤونهم، ولذلك يشوبها ضعف الموضوعية والمصلحة العامة للشعوب.

وفي حالة فيروس كورونا الجديد(2019-nCoV) فلدي إحساس قوي بأن هناك مماطلة أو إعطاء المزيد من الفرص للصين قبل أن تُصدر منظمة الصحة العالمية قرارها بأن المرض الحالي يُعد وباءً دولياً قد تخطى حدود الصين الجغرافية وأثر على معظم دول العالم. فمثل هذا القرار ستكون له مردودات عميقة وعصيبة على الصين خاصة ودول العالم أجمع، وبالتحديد من الناحية الاقتصادية والتي قد تُدخل العالم في ظلام الركود الكئيب كما حدث عام 2008. فمنذ بروز أخبار ظهور المرض الجديد في 30 ديسمبر من العام المنصرم، والمنظمة تخطو خطوات بطيئة جداً ومحسوبة مجاملة للصين وإعطائها المزيد من الوقت لمواجهة واحتواء المرض محلياً. ففي المرة الأولى التي اجتمعتْ فيها لجنة الطوارئ في جنيف في 23 يناير، لم تكن الحالات قد تفشت في الكثير من دول العالم، وإنما كانت محدودة وقليلة نسبياً، وقررت هذه اللجنة أن عليها التريث وعدم الاستعجال في الإعلان عن حالة الطوارئ على المستوى الدولي، ولذلك كان قرارها الأخير هو أنها "حالة طوارئ قومية"، أي على مستوى الصين فقط. وعندما تجاوزت الحالات التي سقط فيها الناس صرعى، وارتفعت بدرجةٍ سريعة ومشهودة حالات الإصابة بالمرض في الكثير من المدن الصينية وفي أكثر من 18 دولة في الشرق والغرب وفي منطقة الخليج العربي على حدٍ سواء، فزادت الأعداد عن كارثة مرض فيروس سارس المعروف في عام 2003، حيث وصل العدد الإجمالي لحالات الإصابة بالفيروس الجديد أكثر من 9900 حالة مرضية أكيدة، مات منهم 300، فعند هذه الأرقام الصاعقة والمزلزلة للمجتمع البشري اضطرت منظمة الصحة العالمية في الثلاثين من يناير على اتخاذ القرار الصعب والمكْلف اجتماعياً واقتصادياً، والمتمثل في الإعلان عن "حالة الطوارئ الصحية على المستوى الدولي". ومازالت المنظمة على هذا الحال من كسب الوقت والتردد في اتخاذ القرار بأن المرض وباء على المستوى الدولي بالرغم من مرور أكثر من 68 يوماً وانتشاره الآن في أكثر من ستين دولة وإسقاطه لنحو 90 ألف في المستشفيات وقضى على قرابة 3000، حيث إنها في 28 فبراير قامت فقط برفع مستوى تصنيف الوباء من "مرتفع" إلى "مرتفع جداً".

وفي تقديري فإن هناك عدة أسباب تجعل منظمة الصحة العالمية تسيس وتؤخر قراراتها المتعلقة بصفة خاصة بهذا الفيروس. وفي تقديري السبب الرئيس هو عدم وجود تعريف ووصف "كمي" ورقمي واضح وصريح لحالة تصنيف المرض كوباء عالمي، فالتعريف المعتمد حالياً والمعايير المتبعة غامضة ونوعية ووصفية يمكن لأي واحد أن يفسرها كما يشاء حسب مصلحة دولته، أو شركته، أو الجهة التي يمثلها، ويقدم المبررات المنطقية لتجنب وصف مرض فيروس كرونا كوباء عالمي.

ولذلك فمنظمات ووكالات الأمم المتحدة بغض النظر عن مجال عملها، فإن قراراتها تخضع وتتحدد بناءً على سياسات وتوجهات ومصالح الدول المتقدمة العظمى ومصالح الشركات متعددة الجنسيات العملاقة التي تعمل فيها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق