الخميس، 12 مارس 2020

فيروس كورونا يُهدد جدوى العولمة


وباء كورونا العالمي الذي يشهده كل صغير وكبير وغني وفقير، ووقع في شباكه القاتلة كل دولة في جميع أنحاء العالم، سواء أكانت صغيرة وبسيطة كدولة الفاتيكان، أو عظيمة وغنية ومتقدمة كالولايات المتحدة الأمريكية، وسواء أكانت فقيرة وشديدة التخلف والتأخر، أو كانت من أكثر دول العالم ثراءً وتطوراً ونمواً، فهذا الفيروس الكوروني الجديد لم يميز بين الضعيف والقوي، أو السليم والعليل، فلم يدع أحداً إلا وأصابه بلدغته المسمومة القاتلة حتى بلغ العدد أكثر من 130 ألف على المستوى العالمي، مات منهم 4100، مما جعل كافة دول العالم بدون استثناء تشمر عن ساعديها لمواجهته والتصدي له والقضاء عليه، بل وإن إيطاليا أعلنت في العاشر من الشهر الجاري عن وضع الشعب كله، أي 60 مليون إنسان في السجن والحجر الصحي العظيم!

 

فهذا الانتشار غير المتوقع لمرض فيروس كورونا الجديد، وهذا التفشي السريع للمرض حتى في الدول التي تبعد آلاف الكيلومترات من مسقط رأس المرض ومن مكان ولادة الفيروس في ووهان بالصين، كشف عورة ما نُطلق عليه الآن بالعولمة، وأظهر بعض سلبياتها وعيوبها التي لم تخطر على بال أحد، وأزال عنها الستار، كما أنه في الوقت نفسه طرح العديد من التساؤلات المنطقية والموضوعية، وأثار الشكوك المشروعة حول فائدة وجدوى هذه العولمة ومصيرها في المستقبل المنظور.

 

فدعاة العولمة من المفكرين والسياسيين منذ أكثر من خمسين عاماً وهم يرون في هذا العالم وينظرون إليه كقرية صغيرة، وعالم واحد لا تتباعد فيها المسافات مهما طالت واتسعت، وتقترب فيها قلوب الناس ونفوسهم وكأنهم يعيشون في منطقة واحدة، فوسائل المواصلات الحديثة والمتنوعة قرَّبتْ البعيد والنائي، وضيَّقت المساحات الواسعة المترامية الأطراف، ووسائل الاتصال الاجتماعي والجماعي من جهةٍ أخرى بمختلف أشكالها وأنواعها كالهاتف وشبكة الإنترنت وغيرهما سهلت التواصل والتخاطب بين الناس، ويسرت وسرعت من التبادل الثقافي والمعلوماتي بين الشعوب البعيدة وجعلتهم وكأنهم فعلاً يسكنون بالقرب من بعضهم البعض، كما أنها عجَّلتْ وسهلت من التبادل التجاري بين دول العالم، إضافة إلى تبادل الخدمات والمنتجات والبضائع ووصولها بين دول المشرق والمغرب في سويعات معدودات قليلة، ونسبياً بأرخص الأثمان والتكلفة الزهيدة.

 

فهذه العولمة بأدواتها وتقنياتها الحديثة المتطورة والمتقدمة تمكنت من كسر الحدود الجغرافية المصطنعة بين دول العالم في كافة المجالات والقطاعات التجارية والثقافية والمعلوماتية والرياضية والصحية والبحثية والسياحية، كذلك تكونت منظمات عالمية مختلفة التخصصات لتُسهل وتنسق العمل الجماعي المشترك بين كل هذه القطاعات، مثل منظمة التجارة العالمية، وصندوق النقد الدولي، كما أُنشئت في الوقت نفسه الأسواق المشتركة بين دولتين أو أكثر لحرية حركة البضائع بين هذه الدول، وغيرها من الوكالات والمنظمات والأدوات المختلفة العالمية والإقليمية.

 

فكل هذه الإيجابيات جعلت دول العالم تتجه وبسرعة شديدة وبدون تردد أو تفكير معمق نحو العولمة، وتتبنى أفكارها وأدواتها المتعددة، بل واتهمتْ الدول التي تعارض أو حتى تنتقد تطبيق أدوات العولمة بأنها رجعية ومتخلفة، وأنها تسير إلى الخلف وليس إلى الأمام، ولا تسعى لمواكبة وملاحقة ركب التطور والنمو والتقدم، وقال الجميع عندئذٍ بأن العولمة هي مستقبل البشرية.

 

ولكن الطامة الدولية الكبرى التي نشهدها اليوم وتعانى منها جميع شعوب العالم بدون استثناء، والمتمثلة في تفشي هذا الفيروس الجديد في أرجاء المعمورة وبسرعة وبسهولة فائقة تخطت قدرة الإنسان على استيعابه وإيقافه، وعجزت عقول البشر عن مواجهته واحتوائه، ولم تتمكن أدويته وأجهزته الحديثة والمتطورة من القضاء عليه.

 

فهذا الكرب الصحي العظيم الذي نزل على البشرية من حيث لم تحتسب وأخذها على حين غرة، أصاب العولمة بزلزال شديد مدمر في مصداقيتها واستدامتها وشكك في جدواها وقدرتها على الاستمرار على المستوى الدولي، بل وحول جميع إيجابيات وحسنات العولمة التي كان يفتخر بها الكثير من رجال العلم والفكر الاستراتيجي طويل الأمد إلى سلبيات ومساوئ لا بد من إيجاد الحلول البديلة لها، ولا بد من وضع وتحديد الإجراءات الدولية لتجنبها في المستقبل القريب.

 

فمحاسن العولمة ومنافعها تحولت إلى نقمةٍ وبلاء، فسرعة وسهولة الانتقال والترحال من مدينة إلى أخرى على المستوى القومي، أو من دولة إلى أخرى على المستوى العالمي، أصبحت الآن السبب الرئيس في تفشي المرض وانتشاره بسرعة البرق على كافة المستويات المحلية والإقليمية والدولية، وسرعة ويسر نقل المعلومات بين الشعوب والأمم تحولت إلى أداة مدمرة لنشر الإشاعات الكاذبة وبث المعلومات المضللة، مما خلق موجة دولية هادمة بين الشعوب من الذعر والخوف الشديدين من هذا الوباء المستعصي على العلاج والذي أخذ ساعة بعد ساعة يكتسح ويفسد جسم البشرية برمتها، فيزعزع نفوس البشر وقلوبهم قبل أن يصل إلى أعضاء أجسادهم، كما أن ارتباط الشركات متعددة الجنسيات بعضها ببعض في بعض دول العالم تحول إلى شرٍ وشللٍ في الأعمال، فكم من المصانع تعطلت وتوقفت أعمالها في الولايات المتحدة الأمريكية أو في القارة الأوروبية أو في آسيا بسبب العلاقة القوية التي تربطها مع مصانع الصين وتعتمد عليها في تزويدها بالمواد الأولية أو قطع الغيار أو غيرهما.

 

فهذا الفيروس المجهري البسيط والذي لا نراه بعيوننا خلق ردة فعل شديدة ضد العولمة ومدى واقعيتها وجدواها على المدى البعيد، ووضعها في ركنٍ ضيق تعاني من أزمة حقيقية في وجودها واستقرارها، وليس هذا الفيروس وحده هو الذي تحول إلى أداة لمحاربة العولمة، وإنما هناك الدعوات إلى تعميق وتشجيع القومية الواحدة والعزلة عن الآخرين، كما هو الحال في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بعض الدول الأوربية، وهناك أيضاً الإرهاب الدولي بكافة أنواعه وأشكاله.

 

فهل يصبح هذا الفيروس الجديد القشة التي قصمت ظهر البعير، فينقل العولمة على مثواه الأخير؟    

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق