الثلاثاء، 26 يونيو 2018

اجتماع لجنة التراث العالمي ومحمية جزر حوار


مازلتُ أتذكر شهر يونيو من عام 2004 عندما جهزتُ نفسي، وحملتُ حقائبي استعداداً للسفر بعيداً، وبالتحديد إلى مدينة سوزهو(Suzhou) في الصين للمشاركة في الاجتماع رقم (28) للجنة التراث العالمي التابعة لمنظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة(اليونسكو)، وكنتُ في ذلك الوقت أحملُ حِملاً ثقيلاً لأقدمه أمام هذا الاجتماع الدولي الهام، والذي تمثل في طلب مملكة البحرين في إدراج محمية جزر حوار على قائمة التراث العالمي.

                                                   

وقد استندتُ في إعدادي لملف "محمية جزر حوار" على عدة أسس رئيسة منبثقة أولاً من قوانين وتشريعات مملكة البحرين التي تؤكد اهتمامها ورعايتها للتراث الفطري الطبيعي وصيانة وحماية التنوع الحيوي، حيث جاء في الفصل الثاني تحت عنوان: المقومات الأساسية للمجتمع، المادة 9 ح: "تأخذ الدولة التدابير اللازمة لصيانة البيئة والحفاظ على الحياة الفطرية"، كما أكدت المادة 11 على أن: "الثروات الطبيعية جميعها ومواردها كافة ملك للدولة، تقوم على حفظها وحسن استثمارها، بمراعاة مقتضيات أمن الدولة واقتصادها الوطني".

 

وفي المقابل دعم ميثاق العمل الوطني هذه التوجهات الوطنية الدستورية المعنية بالبيئة وحماية مواردها الطبيعية والمحافظة على ثرواتها الحية وغير الحية، حيث ورد في الفصل الثالث، المادة الخامسة حول: البيئة والحياة الفطرية: "نظراً للضغط المتزايد على الموارد الطبيعية المحدودة، فإن الدولة تسعى إلى الاستغلال الأمثل للموارد الطبيعية والتنمية غير الضارة للبيئة وصحة المواطن، كما تأخذ في عين الاعتبار التوجهات العالمية في منع ومعالجة المشكلات البيئية الكبرى، وذلك من خلال وضع استراتيجية وطنية لحماية البيئة واتخاذ جميع الإجراءات والتدابير التشريعية المناسبة للحد من التلوث من مصادره المختلفة وتوفير التسهيلات للشركات الصناعية للتحول للإنتاج النظيف، وضرورة إجراء دراسات التقييم البيئية قبل البدء في تنفيذ المشاريع. من ناحية أخرى تقوم الدولة بالمحافظة على الحياة الفطرية وخاصة البيئات الطبيعية المتنوعة التي تتميز بها البحرين بما في ذلك مكوناتها الحيوانية والنباتية من خلال وضع الخطط المناسبة لاستخدام الأراضي وإدارة المناطق الساحلية وإنشاء منظومة من المحميات الطبيعية على غرار محمية العرين ومحمية جزر حوار والمياه المحيطة بها، والتي تأتي أهميتها على المستوى العالمي نظراً لما يتواجد فيها من حيوانات وطيور نادرة".

وعلاوة على هذه البنود المتعلقة بحماية البيئة عامة والحياة الفطرية خاصة وإنشاء المحميات الطبيعية، فقد أعلن مجلس الوزراء في القرار رقم (16) لعام 1996 في 16 سبتمبر 1996 بأن "جزر حوار والبحر المحيط بها محمية طبيعية بهدف المحافظة على البيئة الطبيعية لمختلف أنواع الكائنات الفطرية في البحر والبر وحماية الأنواع النادرة والمهددة بالانقراض".

 

فهذه القوانين العامة ذات العلاقة بالبيئة والحياة الفطرية، وبخاصة محمية جزر حوار انبثقت من الخصوصية البيئية لجزر حوار على المستويين الوطني والدولي، وهذه الخصوصية الفريدة تكمن في أنها تحتوي على عدة بيئات عذراء بكر لم تمسها أيدي البشر ولم تعبث بحرماتها ولم تتعد على حقوقها، وهذه البيئات البكر تعتبر اليوم من العملات النادرة التي يصعب الحصول عليها، حيث التلوث ضرب أطنابه في كل بيئةٍ صغيرةٍ أو كبيرة، قريبة أو بعيدة في العالم.

 

كما أن خصوصيتها تتمثل في أنها الحضن الدافئ والآمن للكثير من أنواع الكائنات الفطرية النادرة والمهددة بالانقراض في البر والبحر، سواء أكانت المستوطنة التي تعيش معنا، أو المهاجرة التي تزورنا للتمتع بأجوائنا الدافئة هروباً من قسوة فصل الشتاء. فجزر حوار تستضيف أكبر تجمعٍ لغراب البحر السوق طري(اللوه) على مستوى العالم، حيث يتكاثر نحو مائة ألف زوج من هذه الطيور في جزيرة سواد الجنوبية ، وجزر حوار أيضاً المكان الآمن لطير صقر الغروب الأسود اللون(شرياص حوار)، الذي يأتي من موزمبيق وجزر سيشل ليتكاثر عندنا، إضافة إلى عقاب السمك، كذلك جزر حوار تضم قرابة ستة آلاف من قطعان بقر الصيد التي تسكن في البيئات البحرية الساحلية، وبخاصة في منطقة الحشائش.

 

والآن مع هذه الخصوصية الفطرية الحية وغير الحية الفريدة من نوعها التي تتميز بها هذه الجزر، علينا أن نستمر في حمايتها وصيانتها ورعايتها لنا وللأجيال القادمة من بعدنا. فسنواجه قريباً تحديات جِسام، معقدة، وعصيبة، تتمثل في كيفية إحداث التوازن بين متطلبات التنمية، من حيث تطوير هذه الجزر وتنميتها سياحياً، وإقامة المنشآت والمرافق السياحية العامة عليها من جهة، ومتطلبات والتزامات حماية الحياة الفطرية النادرة والمهددة بالانقراض.

 

فالأسئلة الخطيرة التي نقف أمامها اليوم وبحاجة إلى إجابة متأنية ومتوازنة تأخذ في الاعتبار كل متطلبات تحقيق التنمية المستدامة، هي:

كيف ننمي جزر حوار دون أن ندمر ثرواتها؟ وكيف نعمرها دون أن نفسدها ونعكر صفوها؟ وكيف نحقق التوازن الدقيق والتعايش السليم والمستدام بين الإنسان وأنشطته وبرامجه التنموية وبين حماية ثرواته الطبيعية من حياة فطرية حية وغير حية؟  

 

 

السبت، 23 يونيو 2018

البيئة في كأس العالم


البيئة هي الركن الثالث للتنمية المستدامة التي تسعى دول العالم لتحقيقها منذ قمة ريو ودي جانيروا التي انعقدت في البرازيل عام 1992 وشارك فيها الكثير من رؤساء ورؤساء حكومات دول العالم، وهذه يعني أنه لا يمكن لأية دولة في العالم أن توفر الرخاء المادي والإزدهار الاقتصادي والانتعاش المالي لشعوبها إلا إذا التزمت فعلياً وتعهدت ميدانياً بالقيام بإجراءات صارمة وبرامج حازمة تصب في المحافظة على ثرواتها البيئية الفطرية الحية وغير الحية، ولا يمكن لاقتصاد الدولة أن يستديم في الانتعاش والنمو السليم إلا إذا تعهدت بتنفيذ أسس ومبادىء حماية كل مكونات وعناصر البيئة، من ماء وهواء وتربة وكائنات حية تعيش بيننا.

 

ولذلك اتفقت دول العالم وأجمعتُ على ضم البعد البيئي والركن المختص بصيانة الموارد البيئية الطبيعية في كل حركة للدول، وفي كل برنامج، وفي كل نشاط، وفي كل سياسة تضعها دول العالم، فعندما نشيد مصنعاً نضع هموم البيئة في المقدمة حتى لا تكون هناك تداعيات وأضرار تنشئ من إقامة المصنع على البيئة، وعندما نبني طريقاً أو شارعاً مزدوجاً أو عمارة تجارية أو سكنية فنتأكد عدم المساس بحقوق مكونات البيئية وعدم التعدي عليها، وعندما ندفن البحر عند الحاجة الماسة لذلك فيجب أولاً أن نحمي الكائنات البحرية التي تعيش في تلك المنطقة ونختار منطقة بحرية تعد الأقل أهمية والأقل ضرراً على البحر وعلى الإنسان.

 

والآن بلغ هذا الاهتمام العام حتى إلى مجال الرياضة بكل أنواعها وأشكالها وأحجامها، فكل الاتحادات الرياضية واللجان الأولمبية أكدت على إدخال الهم البيئي في الممارسات الرياضية والأنشطة والبرامج الرياضية بشكلٍ عام، وأجمعت على ضم شؤون البيئة كبعد رئيس في كافة الفعاليات والمنافسات الرياضية، سواء أكانت على المستوى المحلي الوطني، أو على المستوى الإقليمي، أو على المستوى الدولي.

 

ولذلك، وتنفيذاً لتعهداتها العلنية أمام الشعوب، والتزاماتها الأخلاقية تجاه عناصر البيئة، فقد قام الاتحاد الدولي لكرة القدم، أو الفيفا بوضع سياسات بيئية عامة منذ سنوات، وأقر استراتيجيات بيئية طويلة الأمد على جميع اتحادات الكرة في كل أنحاء العالم الالتزام بها، وتطبيقها أثناء مباريات كرة القدم المحلية أو الإقليمية، أو الدولية.

 

وهذه الإستراتيجية البيئية التي تُعرف الآن بـ "إستراتيجية الاستدامة"، على كافة المنسوبين تنفيذها سواء على مستوى اللاعبين، أو الإداريين، أو الجماهير، قبل وأثناء وبعد الانتهاء من مشاهدة المباريات في الملاعب.

 

ودورات كأس العالم في كرة القدم تُقدم أكبر فرصة سانحة لاستغلالها لتعميق ثقافة حماية البيئة، وتعزيز الوعي البيئي الشعبي العام، والتعهد بالقيام بسلوكيات وتصرفات بيئية مستدامة لا تضع بصمات سيئة على مكونات البيئة، فهذه المناسبة الكروية فرصة ذهبية لا تتكرر إلا كل أربع سنوات، ويجب عدم إضاعتها، حيث أفادت التقديرات أن أكثر من 3.4 بليون إنسان شاهد وتفاعل مع مباريات كرة القدم التي أُقيمتْ في روسيا، سواء مباشرة من خلال الحضور الشخصي لهذه المباريات والمشاركة الفعلية، أو من خلال مشاهدتها في التلفاز في المنزل، أو في الشوارع والميادين الرئيسة والمجمعات التجارية المغلقة، أو في المقاهي العامة، وهذا يعني أن نحو نصف سكان العالم تابعوا مباشرة، أو بطريقة غير مباشرة هذه المباريات.

 

ولذلك فقد أكدت اللجنة الروسية التي نظمت كأس العالم في عدة مناسبات قبل وأثناء المنافسات بأن هذه النسخة الروسية من كأس العالم ستكون غير سابقاتها من الدورات، وأكدت بتعهداتها في أن تكون هذه الدورة أكثر "صداقة للبيئة وأكثر استدامة"، أي أنها سـتأخذ البعد المتعلق بالبيئة في كل الأنشطة والإجراءات التنفيذية التي ستقوم بها داخل وخارج الـ 12 ملعباً التي شَهدتْ المنافسات الكروية.

 

فعلى سبيل المثال لا الحصر، ركزت اللجنة المنظمة على المخلفات البلاستيكية التي تعد الآن أكبر تهديدٍ لسكان الأرض من إنسان وحيوان، حيث وضعت حاويات خضراء اللون داخل وخارج الملاعب من أجل تدوير بعض مكونات المخلفات الصلبة، وبخاصة البلاستيك، إضافة إلى تصميم سيارات خاصة تجمع العبوات البلاستيكية وتحولها إلى منتجات استهلاكية يستخدمها الناس كالملابس والحقائب والأكياس.

 

ولذلك علينا أن لا نُفوت أية مناسبة رياضية على أي مستوى كانت، فمن خلالها نتمكن من رفع الوعي البيئي، وتبديل اتجاهات الشعوب، وتغيير السلوكيات العامة لتكون أكثر استدامة، وأشد رفقاً بكوكبنا.

 

 

الثلاثاء، 19 يونيو 2018

البصمة الوراثية للشعوب


تُعد مياه المجاري اليوم في المدن المؤشر الرئيس الذي يكشف أسرار الشعوب وخفاياها وممارساتها، وتُقدم ما تقوم به الشعوب من سلوكيات في اليوم والليلة، في السر وفي العلن، وتعلن عن كل ما يشربه الناس أو يأكلونه أو يتناولونه أو يتعاطونه في ليلهم ونهارهم، فإما أن تكون النتيجة فضيحة مدوية ومخجلة، وإمام أن تكون علامات إيجابية مبشرة تفتخر بها تلك المدينة وتقدم صورة مشرفة ناصعة البياض لشعب تلك المدينة، فمياه المجاري أعتبرها إذن "البصمة الوراثية" للشعوب في المدن التي تعيش فيها.

 

فهذه البصمة الوراثية الحديثة تحمل في طياتها كماً هائلاً من المعلومات الحيوية الخاصة التي لا يمكن الحصول عليها بالطرق التقليدية المعروفة، وتعتبر كتاباً تفصيلياً مكشوفاً وموثقاً لعادات وممارسات الشعوب، وتعطي قراءة أولية وسريعة يمكن الاعتماد عليها لما تقوم بها الشعوب سراً وعلناً، من حيث استهلاكها للثروة المائية، ونوعية وكمية الأدوية التي تستخدمها، وإدمانها على المخدرات وتعاطيها لهذه الآفات القاتلة المهلكة للشعوب، إضافة إلى عاداتها الغذائية ونوعية الأمراض التي تعاني منها، ولذلك لكل شعب من شعوب العالم، ولكل مدينة من مدن العالم بصمتها الوراثية الخاصة بها والتي تحدد هويتها واتجاهاتها وسلوكها اليومي، إضافة إلى عاداتها وثقافتها.

 

وقد كشفت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً عن قوة هذه الأداة الإبداعية المستجدة الفاضحة وأهميتها في التعرف على ثقافة وهوية وممارسات الشعب الأمريكي في جوانب كثيرة متعددة، فقد تبنَّت اليوم واعتمدت رسمياً هذه الآلية التحليلية لمواجهة أزمة المخدرات، وبخاصة الأفيون، وصمَّمت من خلال المعلومات والبيانات التي حصلت عليها من تحليل هذه المياه طرق ووسائل التصدي لهذا الوباء العام الذي أكل أطفال وشباب وشيوخ أمريكا جميعاً، وهدَّد جيلاً بأكمله بالمرض العضال والموت المبكر، إلى درجةٍ لم يشهد لها التاريخ مثيلاً بحيث أن الرئيس الأمريكي ترمب أضطر إلى إعلان حالة الطوارىء الصحية في أكتوبر من عام 2017 لإدمان الشعب على المخدرات.

 

فمياه المجاري، أو ما يُطلق عليه في بعض الأحيان مياه الصرف الصحي السائلة من جهة، والحمأة أو المخلفات الصلبة وشبه الصلبة التي تنتج في نهاية المطاف بعد عمليات المعالجة من جهة أخرى هما الكنز المفقود الثمين الذي تُخزن فيهما المعلومات القيَّمة والموثقة التي يمكن الاعتماد عليها للتحليل واستخلاص الاستنتاجات الهامة عن عادات وسلوكيات وتصرفات الشعوب كل يوم، إضافة إلى اكتشاف حجم ونوعية المواد والأدوية المخدرة والمدمنة التي تنتشر بين الشعب في ذلك المجتمع.

 

فنتيجة هذه التحاليل المخبرية الميدانية إذا كانت سيئة ومخزية وتفضح وجود المخدرات والأدوية التي تسبب الإدمان بشكلٍ مشهود وعلى نطاق واسع عند سكان تلك المدينة، من المفروض أن تُطلق صفارات الإنذار فوراً، وتصيح الأجراس التحذيرية مُنبهة الجهات المسؤولة والمعنية بإدارة المخدرات، سواء وزارة الصحة، أو وزارة الداخلية، أو وزارة التجارة إلى هذه الحقيقة المرة والواقع الأليم الذي يعاني منه سكان المدينة، ومن المفروض أن هذه المعلومات الثرية والدقيقة عن حالة المخدرات في المدينة توقظ الجهات التنفيذية لمنع انتشار هذا الوباء وتجنب استفحاله بين أفراد المجتمع، ثم وضع السياسيات الجديدة لمواجهته، ورسم خارطة طريق سريعة للتصدي له قبل فوات الأوان.

 

ولذلك يجب أن نعلم بأن كل ما نقوم به كأفراد أو جماعات سواء في السر أو العلن، وكل ما نحاول أن نخفيه ونتستر عليه من ممارسات مشينة، وتصرفات آثمة تعصي رب العالمين، وسلوكيات غير سليمة ومضرة للإنسان نفسه ولمن حوله، فإن العلم الحديث بأجهزته الدقيقة الشاملة والمتكاملة يستطيع إزالة الستار عن هذه الأسرار، وكشف كل ما تم إخفاؤه.

 

ففي السابق كُنا نقوم بتحليل المخلفات الصلبة أو القمامة المنزلية التي يلقيها الإنسان في سلة القمامة، أو نقوم في الوقت نفسه بتحليل عينة من هذه القمامة التي تم دفنها في مدافن ومقابر المخلفات الصلبة، فنحصل من عملية التحليل الكمي والنوعي لهذه القمامة على معلومات هامة وقيمة تحدد شخصية الإنسان عامة في هذه المدينة، كما تحدد ما إذا كانت سلوكياته مستدامة أم لا، ونتعرف أيضاً على عاداته الغذائية الشهرية وأنماط استهلاكه للمواد بشكلٍ عام، ومن هذا الكم الكبير من المعلومات نصل إلى استنتاجات حيوية من ناحية الثقافة الاستهلاكية للإنسان وتغيرها من شهر إلى آخر، كما نتعرف على أهمية التعليم والمستوى العلمي للإنسان في تحديد وهوية هذه الثقافة، كما كُنا نتمكن من خلال تحليل القمامة من اكتشاف تأثير الناحية الاقتصادية على الثقافة الاستهلاكية للشعب في هذه المدينة، إضافة إلى معلومات واستنتاجات أخرى مهمة في مجال التخطيط ورسم سياسات تلك المدينة.

 

واليوم أضاف العلم أداة جديدة لسبر غور سلوكيات الشعوب اليومية وهي مياه وحمأة مياه المجاري، وغداً سنكون مع آلية حديثة أخرى تكشف ما يقوم به الإنسان من أعمال وممارسات وما يتحلى به من عادات اجتماعية. 

 

الرئيس الصيني يتعهد


نشرتْ الصحف الصينية الصادرة باللغة الإنجليزية، ومنها صحيفة "يوميات الشعب" وصحيفة "يوميات الصين" خبراً مهماً جداً وغريباً في الوقت نفسه في 24 مايو من العام الجاري يجب أن نقف عنده لنتعرف على أبعاده ودلالاته وكيفية الاستفادة منه في واقعنا الحالي، وبالتحديد في أسلوب ونمط التنمية الذي نتبعه في البحرين.

 

فقد جاء الخبر نقلاً عن تصريحات الرئيس الصيني والأمين العام للحزب الشيوعي الذي أكد على أن الصين تدخل مرحلة جديدة في سياساتها التنموية، وستتبنى إستراتيجية حديثة تاريخية محورها ومركزها الرئيس هو الإنسان وحماية الأمن الصحي للإنسان، أي سياسة "الإنسان أولاً"، فسياسة الصين في عملياتها التنموية بناءً على هذه الرؤية قد تغيرت 180 درجة، وتبدلت جذرياً من حالٍ إلى حال، فقد تغيرت من سياسةٍ هدفها تحقيق النمو السريع والمتعاظم على حساب كل شيء آخر إلى سياسة وسطية معتدلة تأخذ في الاعتبار الجانب الاقتصادي جنباً إلى جنب مع الجانب البيئي الصحي والاجتماعي، كما تغيرت من سياسة الهدم للموارد والثروات الطبيعية إلى سياسةٍ تنسجم مع رعاية البيئة ومواردها الحية وغير الحية، أي من سياسة عدائية وهجومية على كل مكونات البيئة والإنسان إلى سياسة صديقة ودفاعية لكل عنصرٍ حي أو غير حي للبيئة.

 

فقد تعهد الرئيس الصيني والتزم أمام الشعب الصيني بالبدء في بناء ما أَطلق عليه بـ "الحضارة البيئية" على المستوى القومي والمستوى الدولي، حيث قال الرئيس الصيني في المؤتمر الوطني الذي عقد في 24 مايو بأننا سندخل معركة ضد التلوث، وسنقاتل ونكافح هذا التلوث بكل الأسلحة المتاحة لنا، وسنُدعم كل الخطوات المتعلقة بالحضارة البيئية، كما أضاف قائلاً بأن الصين ستتحول من "سياسة النمو المتسارع" إلى سياسة "النمو ذو الجودة العالية أو النوعية الممتازة".

 

كما حدد الرئيس الصيني عدة مبادئ رئيسة لمرحلة بناء الحضارة البيئية، من أهمها إعطاء الأولوية للتصدي للمشكلات البيئية الرئيسة القائمة والتي أكلت صحة المواطنين ودمرت نوعية حياتهم، إضافة إلى تجنب أية مشاريع إنمائية تؤثر على سلامة الإنسان وصحة البيئة، كما جاء في أحد المبادئ اعتبار الموارد الطبيعية من ماء وهواء وتربة وجبال وأنهار وبحيرات وحياة فطرية ثروات لا تُقدر بثمن، ويجب الحفاظ عليها وتنميتها، وعدم التضحية بصحتها نوعاً وكماً في أعمالنا التنموية.

 

هذا التعهد الحازم للرئيس الصيني أمام الشعب لم يكن سهلاً وميسراً، وإنما اضطر وأُجبر إلى إحداث هذا التغيير الجذري في السياسات التنموية ووضع البيئة في مقدمة أولويات برامج الحكومة نتيجة للوضع البيئي المأساوي غير المسبوق الذي عانت منها البيئة طوال أربعين عاماً، وانعكست هذه الحالة العصيبة مباشرة على صحة الإنسان وإنتاجيته ونشاطه التنموي.

 

فهذه التجربة الصينية الواضحة وضوح الشمس في رابعة النهار، وهذه الخبرة الصينية في مجال نمط التنمية يجب أن لا نغفل عنها في البحرين أو نتجاهلها، فنضعها نُصب أعيننا، ونستفيد من هفواتها وزلاتها، وإلا سنقع حتماً في الكرب العظيم الذي وقعت فيه الصين، وسنواجه المصير نفسه، فهل نحن مستعدون؟ 

الأحد، 17 يونيو 2018

آخر الدراسات حول أسباب السرطان


الآلاف من الدراسات والتقارير والأبحاث تُنشر سنوياً لكشف أسرار هذا المرض العضال المستعصي على العلاج، وسبر غور خفاياه وأسبابه، والتعرف عن كثب على آلية إضراره بصحة الإنسان ومحاولة الحصول على العلاج الناجع والكافي لهذا المرض العصيب المزمن الذي حيَّر العلماء، ودوخ الأطباء، وأرهق ميزانيات الشعوب والدول دون جدوى ملموس ومشهود، علماً بأن الكلفة الإجمالية لعلاج هذا الكرب العظيم على المستوى الدولي بلغ نحو 1.2 تريليون دولار، وعلى مستوى البحرين فإن علاج المريض الواحد فقط يكلف قرابة أربعين دينار.

هذا المرض هو السرطان الذي يضرب الإنسان مرة واحد ضربة قاضية، وينزل عليه فجأة دون سابق إنذار كالصاعقة على تنزل علينا، فيحول حياته وحياة أهله إلى مآسي وأحزان ومعاناة مستمرة قد تقصر لأشهر عصيبة، وقد تطول لسنواتٍ عجاف.

وآخر هذه الدراسات التي أُجريت على مستوى دول العالم قام بها ما يسمى "العِبء الدولي للتعاون حول لمرض السرطان"(The Global Burden of Disease Cancer Collaboration)، ونُشر في مجلة الجمعية الأمريكية الطبية لعلم الأورام في الأول من يونيو من العام الجاري، حيث أَجرت الدراسة تقييماً وتحليلاً شاملاً سنوياً ولمدة عشر سنوات على المستوى الدولي لـ 29 نوعاً من السرطان، من حيث عدد المصابين الذين يتم تشخيصهم بهذا المرض وعدد الذين يقضون نحبهم كل سنة.

وقد تمخضت عن هذه الدراسة عدة استنتاجات هامة، منها:
أولاً: أعداد الذين يسقطون صرعى بسبب هذا المرض العضال المستعصي على العلاج زاد بنسبة 28% سنوياً في الفترة من 2006 إلى 2016، وأكثر الأنواع شيوعاً هو سرطان الجلد والرئة والقولون. فقد قدَّرت الدراسة عدد المصابين في عام 2016 بنحو 17.2 مليونحالة مرضية، مات منهم 8.9 مليون. 
ثانياً: يعد سرطان الرئة الأكثر انتشاراً من بين أنواع السرطان التي تمت دراستها، فهو الأشد فتكاً وتدميراً بصحة الإنسان والمتسبب الرئيس في موته، حيث إن 20% من الموتى المصابين بالسرطان كان بالإصابة في الرئة، وفي النساء يعد سرطان الثدي الأكثر انتشاراً وشيوعاً.
ثالثاً: هناك ثلاثة أسباب رئيسة تزيد من مخاطر الإصابة بهذه المصيبة العظيمة، وهي نمط حياة الإنسان والأسلوب الذي يتبعه في معيشته اليومية، والثاني هو التدخين، والثالث فهو التعرض للملوثات التي تؤدي إلى الإصابة بالسرطان من مصادرها التي لا تعد ولا تحصى، وكل هذه الأسباب من الممكن تجنبها فهي متعلقة بسلوكنا وممارساتنا اليومية ونستطيع بالإرادة الصادقة والعزيمة القوية أن نتخلص من كل عاداتنا السيئة وتصرفاتنا الخاطئة المهلكة.

أما السبب الأول فهو مهم جداً ويمكن تصحيحه ويقع تحت أيدينا، وهو نمط وأسلوب الحياة من حيث أولاً إتباع العادات الغذائية السليمة والصحية نوعياً وكمياً، وتبني المنهج الرباني القائل: “وكلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين" وقول الرسول عليه الصلاة والسلام: ما ملأ ابن آدم وعاءً شراً من بطنه". أما من الناحية النوعية فتتمثل في الابتعاد عن المأكولات المعلبة التي تحتوي عادة على عشرات المواد الحافظة وبعضها يسبب السرطان، إضافة إلى تجنب شرب الخمر والوجبات السريعة الدهنية والمأكولات المعالجة، وفي المقابل التركيز على الخضروات والفواكه والغذاء المشبع بالألياف والأسماك. كما يندرج تحت "نمط الحياة" ممارسة الرياضة والأنشطة العضلية مهما كان نوعها وبشكل مستمر ولو كانت قليلة وبسيطة، فهذا من شأنه الحفاظ على وزن الجسم وتجنب الوزن الزائد والبدانة المفرطة التي تسبب السرطان.

أما السبب الثاني الذي حتماً يُوقع الإنسان في السرطان ويقضي عليه رويداً رويداً ويمكن تجنبه كلياً هو التدخين، سواء أكان تدخين السجائر التقليدية أو الإلكترونية أو الشيشة، حيث أجمع الطب على أن المدخن ومن يجلس حوله يوقعون أنفسهم وبمحض إرادتهم في الإصابة بـ 14 نوعاً من السرطان وعلى رأس القائمة سرطان الرئة والفم والحنجرة والقولون والكبد والكلية والبنكرياس والمثانة، فالتدخين يقتل أكثر من 15.5 مليون إنسان سنوياً.

والسبب الثالث المؤدي إلى الهاوية الصحية فهو التلوث بكل أنواعه، التلوث الكيماوي والفيزيائي والحيوي، ومن أشد مصادر الملوثات تهديداً لصحة الفرد المجتمع هو عوادم السيارات التي تحتوي على ملوثات مسرطنة مثل البنزين والمركبات العضوية العطرية متعددة الحلقات والجسيمات الدقيقة. ومن جانب آخر هناك التلوث الفيزيائي من خلال التعرض للأشعة البنفسجية القاتلة في صالونات "التانينج"، أو صالونات تغيير لون البشرة إلى اللون الذهبي، إضافة إلى التعرض المباشر لأشعة الشمس.

فهذه الأسباب والمصادر السرطانية بأيدينا تجنبها والابتعاد عنها، ولكن في المقابل هناك سبب اكتشفه العلماء مؤخراً وهو دور جينات الإنسان الوراثية في الإصابة بالسرطان، أي العامل الوراثي (heredity)، أو العامل(H)، الذي لا دخل للإنسان فيه ولا يستطيع تجنبه أو التخلص منه، ولذلك أُطْلِقُ عليه بعامل "القضاء والقدر". وهذا العامل الجديد يجب أن لا يُوقع الإنسان في الإحباط ويولد عنده الشعور بفقدان الأمل والاشمئزاز، فكل ما علينا القيام به هو الأخذ بالأسباب والتوكل على الله وتجنب كل الأمور المؤدية إلى السرطان والتي تحدثنا عنها، ثم ندعو الله بموفور الصحة والعافية.

الجمعة، 15 يونيو 2018

المرض الغامض الذي يُصيب الدبلوماسيين الأمريكيين


تناولت معظم وسائل الإعلام الغربية والشرقية التي اطلعتُ عليها في السادس من يونيو من العام الجاري خبراً حول إصابة الدبلوماسيين الأمريكيين العاملين في الصين بمرضٍ غريب وغامض، أو الشعور بحالة مرضية فريدة من نوعها تتمثل في آلام في الرأس والأذن، وصداع شديد، وصعوبة في النوم، وعدم القدرة على التركيز، والشعور بالإرهاق والتعب، وفقدان تدريجي في السمع.

فعلى سبيل المثال،نقلتْ صحيفة الواشنطن بوست الخبر تحت عنوان: “المرض الغامض يضرب الدبلوماسيين الأمريكيين في الصين ويوقع ضحايا"، حيث جاء في الخبر بأن وزارة الخارجية الأمريكية أفادت عن إجلاء دبلوماسيين أمريكيين وأُسرهم الذين يعملون في القنصلية في مدينة جينيس(Guangzhou) الصينية للكشف على حالتهم الصحية وإخضاعهم للفحوصات الطبية العاجلة بسبب تدهور صحتهم وتعرضهم لأعراض مرضية غريبة ناجمة عن ضوضاء وأصوات غير طبيعية وغير عادية لم يألفوها من قبل، كما صرحت الخارجية بأنها أرسلت فريقاً متخصصاً لدراسة أوضاع باقي العاملين. أما النيويورك تايمس فقد أصدرت الخبر تحت عنوان: “حالة طبية غريبة تتطور بين الدبلوماسيين الأمريكيين في الصين"، كما أن المحطة الإخبارية الـ سي إن إن بثت الخبر تحت عنوان: “وزارة الخارجية ترسل بعض الدبلوماسيين إلى أمريكا للفحص الطبي بعد الحادثة الصوتية في الصين"، وقامت بنقل تصريح وزير الخارجية مايك بومبيو في مايو من العام الجاري في جلسة استماع الشؤون الخارجية للكونجرس حيث أفاد بأن الحالة المرضية التي تعرض لها الدبلوماسيون في الصين مشابهة جداً ومنسجمة مع الحالة المرضية للدبلوماسيين في كوبا، ولكن السبب غير معروف حتى الآن. كذلك أوردت صحيفة الإندبندنت البريطانية الخبر تحت عنوان:"وزارة الخارجية الأمريكية تفيد بأن بعض الدبلوماسيين في الصين تعرضوا لأصوات غير عادية وهجوم صوتي كزملائهم في كوبا".

والجدير بالذكر فإن هذه الأعراض الغريبة وهذه الحالة المرضية الغامضة التي يعاني منها بعض الدبلوماسيين الأمريكيين في الصين منذ أبريل من العام الجاري ليست هي الأولى من نوعها، فقد تم الإعلان عن حالة مشابهة للدبلوماسيين الأمريكيين العاملين في العاصمة الكوبية هافانا منذ عام 2016 حتى أغسطس 2017، وقد نشرتُ مقالاً في أخبار الخليج في 29 أكتوبر 2017 تحت عنوان:"ماذا حدث لموظفي السفارة الأمريكية في كوبا؟"، حيث تم سحب 24 دبلوماسياً من كوبا في 29 سبتمبر وإجراء الفحوصات الطبية عليهم للتعرف على مصدر وسبب الشكوى الصحية المزمنة التي يعانون منها. كما أن كندا بعد أشهر، وبالتحديد في 16 أبريل من العام الجاري، وللسبب نفسه سحبت بعض دبلوماسييها ، حسب ما ورد في صحيفة الـ يو إس توداي الأمريكية.

ومنذ الإعلان عن هذا المرض الغامض في كوبا والآن في الصين، فقد انكشفت عدة نظريات وظهرت عدة روايات لتفسير هذه الحالة الصحية النادرة والغريبة على المستوى الدولي. أما مجلة النيوزويك الأمريكية فقد نشرت تحقيقاً في 31 مايو من العام الجاري أفادت فيه بأن هذه الحالة الصحية النادرة ربما تكون بسبب تعرض الدبلوماسيين للأمواج الصادرة من أجهزة المراقبة والتنصت وغيرهما، حيث إن "الأسلحة الصوتية" المستخدمة في التجسس والاتصالات تكون تردداتها إما مسموعة أو غير مسموعة ولكن الإنسان يشعر بذبذباتها ويعاني منها إن استمرت فترة طويلة. وفي المقابل أشارت دراسة علمية أجريت في جامعة بنسلفانيا الأمريكية على الدبلوماسيين القادمين من كوبا وبتكليفٍ من وزارة الخارجية إلى أن حالة المصابين تشبه حالات وقوع "الارتجاج البسيط في المخ" عند حدوث أية صدمة خفيفة يتعرض لها المخ، ولكن لم يصلوا إلى أية نتيجة واضحة وقوية، ولم يقدموا دليلاً دامغاً على أسباب ومصدر ظهور هذه الحالة، ونُشرت هذه الدراسة في مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين في 15 فبراير من العام الجاري. أما الباحثون في جامعة متشجن الأمريكية فأرجعوا سبب هذه الظاهرة الصحية النادرة في كوبا إلى الأمواج الصوتية، أو الهجوم الصوتي، ولكن السبب مازال مجهولاً. وفي المقابل نشرت صحيفة النيويورك تايمس مقالاً في العاشر من أكتوبر عام 2017 تحت عنوان: "الأصوات الغامضة والمرض المخيف كأداة سياسية"، وفحوى هذا المقال هو التشكيك في الرواية الحكومية الرسمية، والادعاء بأن الحكومة استخدمت هذه الحالة المرضية لأغراض سياسية تمهيداً لتغيير موقف أمريكا تجاه كوبا. كما أن بعض الخبراء في مجال علم طب الأعصاب أشاروا إلى أن هذه الحالة قد تُفسر بأنها نوع من الجنون أو "الهستيريا الجماعية"، وهو حالة نفسية عصبية أعراضها تتمثل في حدوث خللٍ في الحس والحركة بسبب وجود القلق والخوف والاضطرابات النفسية من وضعٍ معين، أو حالة محددة.

أما الرواية الرسمية التي نشرتها الحكومة الأمريكية فقد أكدت على تعرض الموظفين في السفارة الكوبية لنوعٍ من السلاح أُطلق عليه "الهجوم الصوتي" أو "الهجوم السمعي"(sonic attack)، ولكن دون تقديم التفاصيل الأخرى، سوى نشر هذه الأصوات التي تعرضوا لها في 14 أكتوبر 2017 إلى وسائل الإعلام، في حين أن الرواية الرسمية اليوم لحادثة الصين اختلفت عن الرواية السابقة وتفيد بعدم معرفتها للمصدر أو الأسباب!

وفي تقديري فإن ما حدث بالفعل للوفد الأمريكي في كوبا أو في الصين سيبقى سراً غامضاً إلى بعض الوقت، وستكشفه لنا الأيام عاجلاً أم آجلاً عندما يزال الستار ويُكشف النقاب عن أرشيف هاتين الحادثتين.