الثلاثاء، 19 يونيو 2018

البصمة الوراثية للشعوب


تُعد مياه المجاري اليوم في المدن المؤشر الرئيس الذي يكشف أسرار الشعوب وخفاياها وممارساتها، وتُقدم ما تقوم به الشعوب من سلوكيات في اليوم والليلة، في السر وفي العلن، وتعلن عن كل ما يشربه الناس أو يأكلونه أو يتناولونه أو يتعاطونه في ليلهم ونهارهم، فإما أن تكون النتيجة فضيحة مدوية ومخجلة، وإمام أن تكون علامات إيجابية مبشرة تفتخر بها تلك المدينة وتقدم صورة مشرفة ناصعة البياض لشعب تلك المدينة، فمياه المجاري أعتبرها إذن "البصمة الوراثية" للشعوب في المدن التي تعيش فيها.

 

فهذه البصمة الوراثية الحديثة تحمل في طياتها كماً هائلاً من المعلومات الحيوية الخاصة التي لا يمكن الحصول عليها بالطرق التقليدية المعروفة، وتعتبر كتاباً تفصيلياً مكشوفاً وموثقاً لعادات وممارسات الشعوب، وتعطي قراءة أولية وسريعة يمكن الاعتماد عليها لما تقوم بها الشعوب سراً وعلناً، من حيث استهلاكها للثروة المائية، ونوعية وكمية الأدوية التي تستخدمها، وإدمانها على المخدرات وتعاطيها لهذه الآفات القاتلة المهلكة للشعوب، إضافة إلى عاداتها الغذائية ونوعية الأمراض التي تعاني منها، ولذلك لكل شعب من شعوب العالم، ولكل مدينة من مدن العالم بصمتها الوراثية الخاصة بها والتي تحدد هويتها واتجاهاتها وسلوكها اليومي، إضافة إلى عاداتها وثقافتها.

 

وقد كشفت الولايات المتحدة الأمريكية مؤخراً عن قوة هذه الأداة الإبداعية المستجدة الفاضحة وأهميتها في التعرف على ثقافة وهوية وممارسات الشعب الأمريكي في جوانب كثيرة متعددة، فقد تبنَّت اليوم واعتمدت رسمياً هذه الآلية التحليلية لمواجهة أزمة المخدرات، وبخاصة الأفيون، وصمَّمت من خلال المعلومات والبيانات التي حصلت عليها من تحليل هذه المياه طرق ووسائل التصدي لهذا الوباء العام الذي أكل أطفال وشباب وشيوخ أمريكا جميعاً، وهدَّد جيلاً بأكمله بالمرض العضال والموت المبكر، إلى درجةٍ لم يشهد لها التاريخ مثيلاً بحيث أن الرئيس الأمريكي ترمب أضطر إلى إعلان حالة الطوارىء الصحية في أكتوبر من عام 2017 لإدمان الشعب على المخدرات.

 

فمياه المجاري، أو ما يُطلق عليه في بعض الأحيان مياه الصرف الصحي السائلة من جهة، والحمأة أو المخلفات الصلبة وشبه الصلبة التي تنتج في نهاية المطاف بعد عمليات المعالجة من جهة أخرى هما الكنز المفقود الثمين الذي تُخزن فيهما المعلومات القيَّمة والموثقة التي يمكن الاعتماد عليها للتحليل واستخلاص الاستنتاجات الهامة عن عادات وسلوكيات وتصرفات الشعوب كل يوم، إضافة إلى اكتشاف حجم ونوعية المواد والأدوية المخدرة والمدمنة التي تنتشر بين الشعب في ذلك المجتمع.

 

فنتيجة هذه التحاليل المخبرية الميدانية إذا كانت سيئة ومخزية وتفضح وجود المخدرات والأدوية التي تسبب الإدمان بشكلٍ مشهود وعلى نطاق واسع عند سكان تلك المدينة، من المفروض أن تُطلق صفارات الإنذار فوراً، وتصيح الأجراس التحذيرية مُنبهة الجهات المسؤولة والمعنية بإدارة المخدرات، سواء وزارة الصحة، أو وزارة الداخلية، أو وزارة التجارة إلى هذه الحقيقة المرة والواقع الأليم الذي يعاني منه سكان المدينة، ومن المفروض أن هذه المعلومات الثرية والدقيقة عن حالة المخدرات في المدينة توقظ الجهات التنفيذية لمنع انتشار هذا الوباء وتجنب استفحاله بين أفراد المجتمع، ثم وضع السياسيات الجديدة لمواجهته، ورسم خارطة طريق سريعة للتصدي له قبل فوات الأوان.

 

ولذلك يجب أن نعلم بأن كل ما نقوم به كأفراد أو جماعات سواء في السر أو العلن، وكل ما نحاول أن نخفيه ونتستر عليه من ممارسات مشينة، وتصرفات آثمة تعصي رب العالمين، وسلوكيات غير سليمة ومضرة للإنسان نفسه ولمن حوله، فإن العلم الحديث بأجهزته الدقيقة الشاملة والمتكاملة يستطيع إزالة الستار عن هذه الأسرار، وكشف كل ما تم إخفاؤه.

 

ففي السابق كُنا نقوم بتحليل المخلفات الصلبة أو القمامة المنزلية التي يلقيها الإنسان في سلة القمامة، أو نقوم في الوقت نفسه بتحليل عينة من هذه القمامة التي تم دفنها في مدافن ومقابر المخلفات الصلبة، فنحصل من عملية التحليل الكمي والنوعي لهذه القمامة على معلومات هامة وقيمة تحدد شخصية الإنسان عامة في هذه المدينة، كما تحدد ما إذا كانت سلوكياته مستدامة أم لا، ونتعرف أيضاً على عاداته الغذائية الشهرية وأنماط استهلاكه للمواد بشكلٍ عام، ومن هذا الكم الكبير من المعلومات نصل إلى استنتاجات حيوية من ناحية الثقافة الاستهلاكية للإنسان وتغيرها من شهر إلى آخر، كما نتعرف على أهمية التعليم والمستوى العلمي للإنسان في تحديد وهوية هذه الثقافة، كما كُنا نتمكن من خلال تحليل القمامة من اكتشاف تأثير الناحية الاقتصادية على الثقافة الاستهلاكية للشعب في هذه المدينة، إضافة إلى معلومات واستنتاجات أخرى مهمة في مجال التخطيط ورسم سياسات تلك المدينة.

 

واليوم أضاف العلم أداة جديدة لسبر غور سلوكيات الشعوب اليومية وهي مياه وحمأة مياه المجاري، وغداً سنكون مع آلية حديثة أخرى تكشف ما يقوم به الإنسان من أعمال وممارسات وما يتحلى به من عادات اجتماعية. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق