الجمعة، 8 يونيو 2018

هل مُنتجاتنا الزراعية بها مضادات حيوية؟


قرأتُ خبراً في أخبار الخليج في الأول من مايو من العام الجاري عن خُلو مُنتجات المزارع في البحرين التي تستخدم مياه المجاري للري من المضادات الحيوية، وفي الحقيقة فإنني لم أقتنع بهذا الخبر، فمئات الدراسات الميدانية الموثقة المنشورة في مجلات علمية محكمة التي اطلعتُ عليها مؤخراً، تؤكد بأن الأدوية التي نستخدمها يومياً سواء للإنسان أو للحيوان ترجع إلينا مرة ثانية بشكلٍ مباشر أو غير مباشر وبعد فترة قصيرة أو طويلة من الزمن، كما تؤكد هذه الأبحاث بأن هذه الأدوية أصبحت جزءاً لا يتجزأ من السلسلة الغذائية البحرية التي يأتي الإنسان فيها على رأس الهرم.

فمصير الأدوية بشكلٍ عام، سواء أكانت مضادات حيوية أو غيرها تأخذ مسارين أو طريقين. أما المسار الأول فهو أننا عندما نستعمل المضاد الحيوي، أو أي دواء آخر فإن أجسامنا تمتص هذه الأدوية فتحولها إلى مركبات أخرى، والبعض منها الذي لا يتم امتصاصه، أو تحوله إلى مركب آخر فيخرج من الجسم كما هو عليه وينتقل مع مياه المجاري إلى المحطات الخاصة بمعالجة مياه المجاري، أو مياه الصرف الصحي. والمسار الثاني الذي تأخذه هذه الأدوية هي التخلص منها وصرفها مباشرة كما هي عليها بعد الانتهاء من استخدامها، أو انتهاء فترة صلاحيتها إلى مياه المجاري أو إلى حاويات القمامة، وهذا المسار أيضاً ينقل الأدوية إلى محطات معالجة مياه المجاري.

وهذا يعني بأن معظم الأدوية في نهاية المطاف تنتقل إلى محطات الصرف الصحي، وهناك تتعرض لعدة مراحل وطرق للمعالجة، وهي المرحلة التمهيدية والأولوية التي يتم فيها التخلص من الملوثات والمواد الصلبة الكبيرة الطافية، وفي الوقت نفسه يتم ترسيب المواد الرملية وغيرها العالقة في عمود الماء، ثم المرحلة الثانوية أو المعالجة الحيوية التي يتم فيها أكسدة المركبات العضوية القابلة للتحلل الحيوي، ثم المعالجة الثلاثية التي تهدف إلى تعقيم المياه باستخدام الكلور، وأخيراً المعالجة الرباعية باستخدام غاز الأوزون أو الأشعة فوق البنفسجية.

فهذه الأدوية التي تمر عبر هذه المراحل من المعالجات قد تتحول إلى مركبات أخرى، أو أنها لا تتغير فتبقى كما هي عليها، ولذلك فهي ترجع إلينا وتدخل في أجسامنا مرة ثانية. أما طريق دخولها إلى أجسامنا فيكون بعدة مسارات. المسار الأول هو أن بعض هذه المياه التي تحتوي على الأدوية تُصرف في البحر، فتصبح مع الوقت جزءاً من السلسلة الغذائية البحرية التي تنتهي بالأسماك التي نأكلها نحن وهي ملوثة بالأدوية. والمسار الثاني هو أن هذه المياه المعالجة التي مازالت تحمل في مكوناتها الأدوية تستخدم لري المحاصيل الزراعية، فتنتقل من التربة إلى المحصول الزراعي الذي نأكله وهو يحتوي على هذه الأدوية دون أن نعلم. وأما المسار الثالث فهو دخول هذه الأدوية إلى أجسامنا عن طريق حمأة مياه المجاري التي تستخدم كسماد عضوي في المزارع والحقول.

وكل هذه المسارات التي ذكرتها ليست "نظرية"، وإنما هي "واقعية" ومشهودة وأكدت على وجودها وواقعيتها الأبحاث العلمية. وإليكم أمثلة من هذه الأبحاث.

فالبحث الأول منشور في المجلة الأمريكية "علوم وتقنيات البيئة" في 29 مارس عام 2016 تحت عنوان: “تعرض الإنسان للأدوية عن طريق مياه المجاري المعالجة"، حيث دارت الدراسة في فلك الكشف عن وجود نوعٍ من الأدوية يستخدم كمضاد للصرع أو النوبات، أو في علاج حالات القلق، أو آلام الأعصاب، ويعرف بالكاربامازيبين(carbamazepine)، فقد أكدت الدراسة وجود هذا الدواء في مياه المجاري المعالجة، وفي التربة الزراعية، وبينت انتقال هذا الدواء بعد التخلص منه إلى المحاصيل الزراعية، وفي النهاية أكدت الدراسة دخول هذا الدواء مرة ثانية في جسم الإنسان من خلال إثبات وجوده في البول.

والدراسة الثانية منشورة في مجلة "علوم وتقنيات البيئة" في 20 يناير عام 2017 تحت عنوان: “التلوث بالمضادات الحيوية في السلسلة الغذائية البحرية في بحيرة ليزهو في شمال الصين وتعرض الإنسان لها"، حيث أجرت دراسة معمقة لتراكم وتضخم 18 نوعاً من المضادات الحيوية في شبكة الغذاء البحرية، وتحليل وجودها في القواقع والأسماك التي تم اصطيادها من البحيرة، وأكدت الدراسة بعد التحليل المخبري لهذه المضادات الحيوية عن تراكم وتضخم تركيزها من الكائنات البحرية الصغيرة إلى رأس الهرم البحري وهي الأسماك، ولا شك بأن وجودها في الكائنات البحرية يؤكد انتقالها مع الوقت مرة ثانية إلى أجسامنا. وأما الدراسة الثالثة فهي منشورة في العدد نفسه من هذه المجلة حيث تناولت ظاهرة تراكم تركيز وانتقال الدواء المعروف أميتريبتيلين(Amitriptyline) المستخدم لعلاج الاكتئاب والاضطرابات النفسية إضافة إلى علاج الصداع النصفي في سمك البْريمْ البحري، وأكدت الدراسة تعرض هذا النوع من السمك لهذا الدواء من مياه البحر.

كما حذَّر تقرير صادر من برنامج الأمم المتحدة للبيئة في الخامس من ديسمبر من عام 2017 بأن الاستخدام المفرط للمضادات الحيوية سواء من قبل الإنسان أو التي توضع وتخلط مع علف الحيوانات في مزارع الحيوانات يشكل تهديداً خفياً لصحة الإنسان نفسه، إذ أن هذه المضادات تنتقل من الإنسان والحيوانات إلى المياه السطحية أو محطات مياه المجاري المعالجة، وأخيراً ترجع إلينا مرة ثانية.

ولذلك فإن خطر رجوع الأدوية إلى أجسامنا بعد أن تمر بدورة كاملة في البيئة واقع لا محالة، وهذا التهديد يتفاقم ويزيد مع شح وندرة المياه العذبة في دولنا واضطرارنا إلى استخدام مياه المجاري المعالجة في مجالات متعددة منها الزراعة، والتي من خلالها تصل إلينا وتسبب لنا مشكلات صحية لا تُحمدُ عقباها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق