الاثنين، 11 يونيو 2018

الوباء قادم لا مَحالة


استمَعتُ قليلاً إلى مقاطع متفرقة من جلسة الاستماع التي عُقدت في مبنى الكونجرس الأمريكي في الثامن من مايو من العام الجاري بين لجنة أعضاء لجنة الطاقة والتجارة التابعة للكونجرس وخمسة من الرؤساء التنفيذين لكبرى شركات الأدوية والعقاقير الأمريكية التي تُسوق وتوزع الأدوية على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية وخارجها، حيث كان الهدف من جلسة الاستماع هو سبر غور وباءٍ صحي ضرب أمريكا وهدد شعبها منذ عقود، والولوج في أعماق هذا الوباء للكشف عن دور هذه الشركات ومسؤوليتها في تفشي وتفاقم هذه الآفة وتجذرها في قلب الأسرة الأمريكية وفي كافة طبقاتها الاجتماعية، الغنية والفقيرة على حدٍ سواء.

 

هذا الوباء الصحي المدمر المتمثل في إدمان الشعب الأمريكي على المخدرات، وبخاصة الأفيون الصناعي، اضطر رئيس الولايات المتحدة الأمريكية ترمب ولأول مرة أن يعلن "حالة الطوارئ الصحية" في أكتوبر 2017  لمواجهة هذه الطامة الكبرى التي أكلت شباب أمريكا وشيوخها وأدخلت مئات الآلاف إلى القبر وهم في ريعان شبابهم،كما أكد ترمب في اللقاء الصحفي الذي عقده في منتجع كامب ديفيد في السادس من يناير من العام الجاري على أن وباء المخدرات سيكون من أولوياته في جدول أعمال عام 2018، ودعا في العاشر من مارس من العام الجاري إلى تنفيذ حكم الإعدام على تجار المخدرات. وجدير بالذكر فإن هذه الكارثة الصحية لها انعكاسات اقتصادية فهي أرهقت الميزانية الأمريكية وكلفتها في عام 2015 نحو 504 بلايين دولار حسب تقديرات مجلس البيت الأبيض للمستشارين الاقتصاديين، كما إن لها تداعيات اجتماعية مستقبلية خطيرة تتمثل في ولادة جيلٍ من الأطفال المدمنين، حسب مقال النيويورك تايمس في التاسع من مايو من العام الجاري تحت عنوان: "أطفال وباء الأفيون" والذي أشار إلى أن كل 15 دقيقة يولد طفل أمريكي مدمن على المخدرات.

 

فقد وقف هؤلاء الخمسة الذين يتصدرون أعلى سلم الهرم الإداري في خمس شركات عملاقة للأدوية أمام أعضاء مجلس الشيوخ وأمام الشعب الأمريكي ليُقدموا شهاداتهم حول وباء المخدرات الذي يعاني منه المجتمع الأمريكي برمته ودورهم في هذه المعاناة. فقد عبَّرت بعض هذه الشركات، ولأول مرة منذ انكشاف هذا الكرب العظيم، عن حسرتهم وندهم وأسفهم لبعض الممارسات المشينة التي قاموا بها لتسهيل توزيع أدوية الأفيون المخدرة التي تسبب الإدمان على الشعب الأمريكي كمسكنات للألم وتجاوزهم للأنظمة المقيدة لهذه الأدوية، واعترفوا بدورهم في هذا الألم العميق الذي خدَّر الشعب وتحملهم جزءاً من هذه المسؤولية، حيث أبدى الرئيس التنفيذي لشركة كاردينال هيلث(Cardinal Health) عن "أسفه العميق" لهذه الحالة الصحية المأساوية، كما اعترف الرئيس التنفيذي لشركة ميامي لوكن(Miami-Luken) بأن شركته تسببت في تفاقم واستمرار أزمة الأفيون وجعلها أشد سوء وأشد تنكيلاً بالشعب.

 

وفي الواقع فإنني لا أستغرب من هذه الاعترافات الصريحة لبعض هذه الشركات العملاقة في دورهم المباشر في تدمير صحة الإنسان وقتله عمداً، فهذه التصريحات تؤكد وتثبت نظريتي التي كتبتُ عنها عدة مرات حول "ثقافة" الشركات الكبرى المبْنية على الربح السريع والكبير دون أي اعتبار لأي عاملٍ آخر غير العامل الاقتصادي، فلا صحة الإنسان، ولا بيئة الإنسان، تُوقف المد التوسعي والجشع المالي الذي ترغب هذه الشركات في تحقيقه سريعاً وبكل الوسائل والطرق، فالغاية تبرر الوسيلة.

 

وقد نشرتُ مقالاً في 20 نوفمبر 2017 عنوانه:"ثقافة التحايل عند الشركات الكبرى" ويؤكد دور شركات الأدوية في إدمان أمريكا على المخدرات، حيث قامت السلطات الاتحادية المعنية بالجرائم على المستوى القومي باعتقال ملياردير أمريكي من ولاية أريزونا كان المؤسس والمالك لواحدة من أكبر وأنجح شركات صناعة الأدوية على المستوى الدولي(Insys Therapeutics Inc.)، فقد تم اعتقاله حسب بيان وزارة العدل بتهمة تقديم الرشاوى للأطباء، والإفراط في وصف دواء الأفيون الشديد القوة والفاعلية والمعروف بالفينتانيل(fentanyl)، إضافة إلى تضليل شركات التأمين فقط من أجل الربح. كذلك أكدت صفحة محطة التلفزيون الأمريكية إِنْ بي سي في 14مايو من العام الجاري على وجود أدلة على أن بعض شركات الأدوية قدمت رشاوى لبعض الأطباء ليصفوا دواء الأفيون المسكن للألم للمرضى، كما جاء في المقال نفسه بأن ولاية كنتكي رفعت دعوى قضائية في 19 أبريل من العام الجاري ضد شركة جونسون و جونسون العريقة لدورها ومسؤوليتها في استخدام أساليب التضليل والغش لإغراق الولاية بأدوية الأفيون المدمنة والمخدرة، وعلاوة على ذلك فقد نشرت الصحف الأمريكية كصحيفة الواشنطن بوست والـ يُو إِس أيه تُوداي في 16 مايو عن قيام ست ولايات أخرى بمقاضاة شركات الأدوية للسبب نفسه، إضافة إلى النيويورك تايمس التي كتبت مقالاً في 19 مايو عنوانه:"150 عاماً على وباء أمريكا على الأفيون".

 

والآن القضية الخطيرة التي أود تنبيه دُولنا إليها، وتحذيرهم من تهديداتها الواقعية العصيبة على مجتمعاتنا هي أن جلسة استماع لجنة مجلس الشيوخ للرؤساء التنفيذين لشركات الأدوية كشفت سراً خطيراً جداً، وأزالت النقاب عن مؤامرة هذه الشركات ضد الإنسانية جمعاء، حيث إن الخطة أو "التكتيك" الذي اتبعته هذه الشركات في تسويق وتوزيع وبيع أدوية الأفيون المخدرة والمدمنة على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، بدأ تنفيذه اليوم خارج أسوار أمريكا في جميع دول العالم تحت مسميات مختلفة، ومبررات متعددة، ومصطلحات جديدة قد تنطلي على بعض الدول.

 

وهذا يؤكد بأن ما نزل على أمريكا من وباءٍ صحي واجتماعي واقتصادي كبير وواسع النطاق، من الممكن جداً أن ينزل علينا يوماً ما، فكيف نقي مجتمعاتنا من شره.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق