الخميس، 25 مايو 2023

تحذير أممي من حالة الطوارئ الصحية الصامتة


صدر تقرير مخيف ومقلق للغاية من بعض المنظمات التي تعمل تحت سقف الأمم المتحدة، مثل منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة(اليونيسيف)، إضافة إلى أكثر من 65 جمعية ومنظمة أخرى شاركت في إعداد هذا التقرير الأممي الشامل لكل دول العالم.

 

ولكن هذا التقرير بالرغم من خطورته وأهمية القضية التي يناقشها لاستدامة حياة البشر على سطح الأرض، إلا أنه مرَّ مرور الكرام وكأن شيئاً لم يكن، فلم ينتبه إليه الكثير من الناس، من حكومات ومسؤولين في الدول عن صحة البشر، كما أن معظم الوسائل الإعلامية لم تعطه الرعاية والاهتمام الكافيين اللذين يتناسبان ويتماشيان مع قيمة وأهمية هذا التقرير وعلاقته المباشرة بالأمن الصحي لكل سكان الأرض، فلم تقم وسائل الإعلام بجميع أنواعها وصورها بتغطية هذا الحدث الجلل، والظاهرة الصحية المتزايدة نوعاً وكماً، فلم تنقله إلى الناس في صفحاتها الأولى، ولم تحظ بالأولوية في النشر والتحليل.

 

هذا التقرير نُشر في 11 مايو 2023 أساساً من منظمة الصحة العالمية، تحت عنوان: "وُلد في وقتٍ مبكرٍ جداً: عَقْدْ من العمل حول الولادة المبكرة"(Born too soon: decade of action on preterm birth)، وهو جزء من عملٍ دولي مشترك عمره أكثر من عشر سنوات، ويهدف إلى إجراء الدراسات والأبحاث الميدانية ومراقبة وتحليل ظاهرة عالمية منتشرة ومستمرة في معظم دول العالم منذ سنوات طويلة وهي الولادة المبكرة، أي الولادة قبل انتهاء الأسبوع 37 من الحمل، ويُطلق علي هذا الجهد الدولي المشترك: " تقرير العمل العالمي حول الولادة المبكرة "(Global Action Report on Preterm Birth).

 

 

 

ونظراً لأهمية وخطورة قضية الولادة المبكرة، وولادة الأجنة الميتة فقد أعلن التقرير حالة "الطوارئ الصامتة" من هذه الولادة غير الطبيعية وفي غير وقتها العادي، وهذا الإعلان استند إلى المعلومات والإحصاءات المتواترة المنشورة حول هذه الظاهرة الصحية الصامتة في كل دول العالم. فهناك على المستوى الدولي حالات ولادة 13.4 مليون طفل غير مكتمل النمو، أو الأطفال الخدج(premature) في عام 2020، أي ما يقارب من طفل لكل 10 أطفال ولدوا قبل انتهاء 37 أسبوعاً من الحمل، حيث مات منهم مليون طفل بسبب تعقيدات الولادة ومشكلات حماية صحة الطفل بعد الولادة. وفي العقد الماضي، أي في الفترة من 2010 إلى 2020 تمت ولادة 152 مليون طفل ولادة مبكرة، وهذه الولادة غير الطبيعية وفي غير وقتها هي حالياً السبب الرئيس لموت الأطفال، وتمثل وفاة طفل واحد من بين 5 وفيات بين الأطفال الذي أعمارهم أقل من 5 سنوات. وهذه المعلومات التاريخية تؤكد صحة إطلاق وصف حالة الطوارئ الصامتة على هذه الظاهرة الصحية، فنمط أعداد الولادة المبكرة والوفيات بسببها لم يتغير طوال العشر سنوات الماضية، ولم يحدث أي تطور إيجابي ملموس في معظم دول العالم، وبخاصة في الدول النامية الفقيرة، حيث كانت النسبة 9.8% في عام 2010، وارتفعت إلى 9.9% في عام 2020.

 

فهذا التقرير الرابع والأخير من سلسلة تقارير دورية صادرة عن منظمة الصحة العالمية واليونيسيف، يقدم رؤية وتقييم دولي لظاهرة الولادة المبكرة، وتأثيرها المزمن والعميق على الأم والأسرة والمجتمع، إضافة إلى النفقات المالية الناجمة عنها. والتقرير يتكون من سبعة فصول، الأول يقدم نظرة تاريخية حول هذه الظاهرة، والثاني يقدم معلومات حول أعداد الوفيات للأطفال أثناء الولادة، والثالث يتناول دور الناس في الحد من هذه الظاهرة، والرابع يقدم صحة المرأة والخدمات الصحية وكيفية منع الظاهرة، والخامس حول العناية بالأطفال حديثي الولادة، وأما الفصل السادس فيقدم الخطوات التي يجب اتخاذها عبر القطاعات المعنية بالظاهرة، وأخيراً يأتي الفصل السابع تحت عنوان: "عقد من التغير".

 

 فهذه الظاهرة الصحية الصامتة المهددة لاستدامة الجنس البشري والمنتشرة في كل أنحاء العالم لها عدة أسباب تقليدية معروفة منذ زمن طويل، منها جودة وسرعة الخدمات الطبية التي توفرها الحكومات في مجال الحمل والولادة ورعاية الطفل بعد الولادة، ومنها الحالة المادية وثقافة ومستوى تعليم أفراد الأسرة، ومنها أسباب لها علاقة بنمط حياة المرأة الحامل كالتدخين وشرب الخمر وسوء التغذية والبدانة.

 

ومن بين الأسباب الرئيسة في تقديري، والتي لا تحظى بالاهتمام من قبل الكثير من الحكومات والأسر، والتي بدأت تأثيراتها وبصماتها القوية على الحمل والولادة تنكشف يوماً بعد يوم هي تعرض المرأة الحامل وجنينها أثناء الحمل وبعد الولادة للهواء الملوث وللسموم التي تنبعث من مصادر لا تعد ولا تحصى، سواء من البيئة الداخلية، وبالتحديد بيئة المنزل، أو من تلوث الهواء في البيئة الخارجية.

 

كما كنتُ أتمنى أن يقوم التقرير الحالي لمنظمة الصحة العالمية بتقديم وتخصيص فصل مستقل يناقش عدة محاور منها دور تلوث الهواء في الداخل والخارج على صحة الحامل وجنينها قبل الولادة، والتعقيدات التي تنتج عند الولادة بسبب التعرض المزمن لتلوث الهواء، سواء الولادة المبكرة غير الطبيعية، أو ولادة طفل ميت، أو معوق، أو منخفض الوزن والحجم، إضافة إلى محور مهم جداً وهو السلبيات التي تنجم عن تعرض الطفل بعد الولادة وهو في طور النمو الجسدي والعقلي للملوثات الموجودة في الهواء الجوي في داخل المنزل وخارجه. والدراسات العلمية التي تسبر غور هذه المحاور كثيرة جداً وجميعها يثبت وجود علاقة بين تلوث الهواء والولادة المبكرة غير العادية، أو ولادة الأجنة الميتة والمعوقة، وهذه الأبحاث في ازدياد كل يوم، أذكرُ منها على سبيل المثال لا الحصر دراسة واحدة فقط منشورة في التاسع من مايو 2023 في مجلة "اللانست" الطبية تحت عنوان: "تلوث الهواء وصحة الطفل". وهذه الدراسة التحليلية الشاملة والجامعة للأبحاث المنشورة حول صحة الطفل قبيل، وأثناء، وبعد الولادة مباشرة وعلاقتها بالتعرض للهواء الملوث. فنتائج الدراسات تؤكد بأن الأم الحامل عندما تستنشق الهواء الملوث، ينتقل إلى الجهاز التنفسي أولاً، ومنه إلى مجرى الدم حتى يصل أخيراً إلى كل خلية من خلايا جسم المرأة، ومنها خلايا المشيمة، وفي الكثير من الحالات يتجاوز هذا العضو الخاص بالحمل فيصل إلى أعضاء الجنين. وفي هذه الحالة الصامتة، فملوثات الهواء تسبب التهابات حادة للأم والطفل معاً، كما تُعيق في الوقت نفسه نمو أعضاء الجنين بطريقة أو بأخرى، فتكون نتيجة هذا التعرض لسموم الهواء هي تعقيدات أثناء الحمل، وفي حالات أخرى تكون الولادة في غير وقتها، أو في بعض الحالات يكون وزن الطفل منخفضاً جداً مما يؤدي إلى تحديات في نمو الطفل واصابته للأمراض الخطرة وصعوبة ابقائه على قيد الحياة.

 

فتلوث الهواء ونوعية الهواء التي يستنشقها الإنسان هي قضية صحية عامة مشتركة على كافة المستويات، وتخص الإنسان الفقير والغني، الكبير والصغير، ومن المهد إلى اللحد طوال سنوات حياته، فهي تضرب الإنسان في كل مراحله العمرية، وقد تُسدد له في بعض المراحل من عمره ضربة قاضية نفسية، أو عقلية، أو جسدية فتهوي به صريعاً على الأرض، وينقل إلى مثواه الأخير.

الأربعاء، 17 مايو 2023

هل انتهى كورونا ميدانياً؟

مرض كورونا، أو كوفيد_19 الذي سببه فيروس سارس(SARS-CoV2) لم ينته ميدانياً وواقعياً، فالحالات المرضية والوفيات من المرض مازلنا نسمع عنها في الكثير من دول العالم، وهذا المرض والفيروس المسبب له لن ينته أبداً، فقد تغلغل في أعماق شرايين المجتمع البشري وتجذر في عروقه، وسيظل خالداً مخلداً فيه، ولكن هذا المرض حسب منظمة الصحة العالمية دخل مرحلة إدارية جديدة تختلف عن المرحلة الطارئة السابقة التي استمرت قرابة ثلاث سنوات، بدءاً من 30 يناير 2020، عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية "حالة الطوارئ الصحية العامة على المستوى الدولي"، وعندما أخذ الفيروس يزحف ويغزو سريعاً إلى كل شبرٍ بعيد أو قريب من كوكبنا حتى أصبح خارج إطار سيطرة الإنسان.

فقد أعلن المدير العام لمنظمة الصحة العالمية عن انتهاء حالة الطوارئ الصحية الدولية لمرض كورونا في المؤتمر الصحفي الذي عُقد في جنيف في الخامس من مايو 2023، حيث قال: "إذن، وبأملٍ كبير، أُعلن بأن كوفيد_19 قد ولى كحالة طوارئ صحية دولية". ولكن في الوقت نفسه فإن هذا الإعلان لا يعني بأن الصُحف قد طُويت حول هذا المرض، وأن الأقلام قد جفَّت وأصبح مرض كورونا جزءاً من التاريخ الصحي المعاصر، فاستناداً إلى تصريحات مدير عام منظمة الصحة العالمية فإن مخاطر هذا المرض العقيم الذي أدوى حتى الآن بحياة نحو 20 مليون قضوا نحبهم خلال فترة قصيرة جداً، وسقط أكثر 765 مليون مريض يعاني من شدة السقم وطول المعاناة، ستظل مستمرة، كما أن التهديدات الصحية الناجمة عن هذا الفيروس العصيب لن تنتهي قريباً.

فهذا الإعلان من المنظمة إداري وإجرائي، فهو يُعلن عن دخول المرض حقبة جديدة من تاريخه تختلف عن مرحلة الأزمة وحالة الطوارئ الفورية السابقة، فالدول تستطيع أن تفك الحزام عن الإجراءات السابقة التي اتخذتها عدة سنوات، وتستطيع أن تُخفف من القيود الصارمة التي فرضتها على الشعوب من ناحية التباعد، ولبس كمامة الوجه، وغيرهما من الممارسات اليومية غير العادية والخاصة بنزول هذا الوباء الدولي.

فالآن يمكن التعامل مع مرض كوفيد_19 كغيره من الأمراض المعدية الموسمية كمرض الأنفلونزا والزكام والبرد الموسمي المحلي العادي، إضافة إلى الأمراض المعدية المعروفة غير الموسمية التي يتعرض لها الإنسان في كل أنحاء العالم، أي أن هذا المرض كباقي الأمراض يحتاج إلى إدارة مستدامة طويلة المدى، فيكون دائماً تحت أعين ومراقبة الإنسان، فلا يغفل عنه لحظة واحدة، ولا يتجاهل وجوده في المجتمع البشري. ومن أجل تحقيق هذا الهدف الإداري الجديد نَشرتْ منظمة الصحة العالمية الوثيقة الرابعة، أو الخطة الاستراتيجية المستقبلية المتعلقة بإدارة المرض للسنتين القادمتين، تحت عنوان: "الخطة الاستراتيجية الدولية للاستعداد والجاهزية والاستجابة لكوفيد_19 للأعوام 2023 إلى 2025"(The Global Strategic Preparedness, Readiness and Response Plan).

وهناك سبب آخر يدعوني إلى القول بأننا سنعاني، وربما بدرجة أقل من ذي قبل من شر هذا الوباء العقيم، وسيبقى معنا الفيروس المسبب للمرض وسيجثم في أعماق مجتمعنا سنوات طويلة قادمة، وهذا السبب الثاني هو عدم إجماع العلماء على مصدر هذا المرض، وعدم تحديد العلماء يقيناً وبالأدلة الدامغة المحسوسة كيفية تفشي هذا المرض من الصين، بلد المنشأ، ومسقط رأس الفيروس، فحتى كتابة هذه السطور لم ينجح العلماء في فك تفاصيل لغز هذا المرض.

فهناك عدة نظريات تحوم وتدور في أروقة المجتمع الدولي وبين العلماء المهتمين حول مصدر هذا المرض ومنبع الفيروس، ومكان انتشاره منذ الأيام الأولى من ولادته والكشف رسمياً عن المرض. أما النظرية الأولى السائدة، والتي تُقدم تفسيراً أولياً ومبدئياً، فهي أن الفيروس انتقل من أحد الحيوانات المكدسة التي كانت موجودة في أقفاص كثيرة، صغيرة، ومكتظة في سوق ووهان في مدينة ووهان الصينية لبيع الحيوانات البرية الفطرية، ومعظم الآراء تفيد بأن هذا الحيوان هو الخفاش، أو حيوان آخر وسيط انتقل المرض إليه من الخفاش، ومنه إلى الإنسان. ولذلك فإن الحالات المرضية الأولى التي تم اكتشافها وتشخيصها في الصين كانت من زوار هذا السوق. وبالرغم من أن هذه النظرية هي التي يعتقد بها الكثير من العلماء، إلا أن منظمة الصحة العالمية نفسها لم تغلق الباب أمام النظريات الأخرى والتفسيرات الثانية لمصدر الفيروس. فهذه المنظمة قدَّمت استنتاجات التقرير الختامي لآخر فريق تحقيق دولي تابِع لها في 30 مارس 2021، وهذه الاستنتاجات جاءت متوافقة مع الرأي السائد حول الفيروس، وهو رأي الصين والكثير من علماء العالم، ولكن في الوقت نفسه دون إغلاق الباب كلياً أمام نظرية احتمال تسرب الفيروس من المختبر في الصين، ودون إهمال هذه النظرية وتجاهلها تماماً، حيث قدَّم التقرير إشارة إليها، فجاء فيه بأن نظرية التسرب هي الأقل ترجيحاً، وأنها "جداً غير محتملة"(extremely unlikely). كما جاءت إشارة أقوى، وأكثر وضوحاً حول نظرية تسرب الفيروس من مختبر ووهان من المدير العام للمنظمة عندما قال بأنه بالرغم من أن التسرب في المختبر هو السبب الأقل احتمالاً، إلا أن هناك حاجة لمزيد من البحث المكثف، ومن التحقيق الدقيق لاستبعاده، كما أضاف بأنه: "فيما يتعلق بمنظمة الصحة العالمية فإن جميع الفرضيات مطروحة على الطاولة".

 

وقد أخذت نظرية التسرب من مختبر في الصين زخماً علمياً وسياسياً كبيرين في 26 فبراير 2023 عندما نَشرت أولاً جريدة "الوال ستريت جورنل"(Wall Street Journal) ثم النيويورك تايمس وصحف أخرى خبراً نَقلاً عن تقييمٍ سري وتقرير جديد لوزارة الطاقة، والتي تقع تحت إشرافها شبكة من المختبرات الاتحادية السرية وغير السرية، والذي تم تقديمه إلى البيت الأبيض وبعض أعضاء الكونجرس. وأهم النقاط الجديدة التي وردت في التقرير هي تغيير رأي وموقف وزارة الطاقة وبعض الأجهزة الاستخباراتية الأخرى حول مصدر فيروس كورونا.

 

فالنظرية الجديدة التي طُرحتْ "بثقة ضعيفة"، أو "ثقة منخفضة" من قبل وزارة الطاقة هي أنه على الأرجح بأن مصدر الفيروس هو التسرب الذي حَدَثَ عرضياً وعن طريق الخطأ من المختبر في معهد ووهان لعلم الفيروسات في مدينة ووهان الصينية، وقد ساند هذا الرأي عدة أجهزة أمنية واستخباراتية، وليست كلها، وفي مقدمتها "مكتب التحقيقات الفيدرالي"(إف بي أي)، حيث استنتج وبثقة "معتدلة"(moderate confidence) بأن المصدر الأرجح لمسقط رأس الفيروس هو المختبر الصيني، وأنه انتقل إلى جسم الإنسان عن طريق تسرب عرضي. وقد أكد على هذا الاستنتاج مدير مكتب التحقيقات الفيدرالي، كريستوفر راي (Christopher Wray) في 28 فبراير 2023 عندما قال بأنه من الأرجح أن المرض بدأ من مختبر واهان، وأنه بسبب تسرب غير متعمد عن طريق الخطأ. وأما البيت الأبيض فقد وقف على الحياد من هذه النظرية، ربما لأسباب سياسية، فقد أعلن "جيك سوليفان"(Jake Sullivan) مستشار الأمن القومي في 27 فبراير 2023 مباشرة بعد تسريب الصحيفة للخبر الجديد في 26 فبراير بأن إدارة بايدن لم تتوصل إلى إجماع حول مصادر الفيروس، وهناك العديد من الآراء المختلفة حول مصدره، حيث قال: "حالياً، لا يوجد جواب نهائي صادر عن مجتمع الاستخبارات حول هذا السؤال"، فمجتمع الاستخبارات مازال منقسماً ومختلفاً حول نظرية مصدر الفيروس. وفي السياق نفسه، قال "جون كيربي" (John Kirby) المتحدث باسم "مجلس الأمن القومي" ( National Security Council)في 27 فبراير :"ما يريده الرئيس هو الحقائق"، كما أضاف قائلاً بأن: "مجتمع الاستخبارات وباقي وكالات الحكومة مازالوا يبحثون في هذه القضية، فلا يوجد استنتاج نهائي".

 

ولذلك فمع عدم وجود تفسير علمي وموضوعي ومستقل لمنبع الفيروس بسبب التعقيدات والصعوبات السياسية والعلمية، وعدم تعاون وسوء نية الدول المعنية مباشرة بالقضية، إضافة إلى دخول الدوافع الانتهازية والنظريات غير الموضوعية والمستقلة، فإن حل لغز مصدر الفيروس الذي أعاق حركة البشرية جمعاء سيكون صعباً جداً، وربما مستحيلاً، وسيبقى الفيروس معنا وفي ذاكرتنا وفي حياتنا اليومية ربما لعقود طويلة قادمة.

الخميس، 11 مايو 2023

رفع مستوى المعيشة البيئية للمواطن


يركز بعض النواب دائماً في مناقشاتهم مع السلطة التنفيذية وفي المقترحات التي يقدمونها في مجلس النواب على كيفية رفع مستوى المعيشة للمواطن من الناحية الاقتصادية المالية البحتة، من حيث رفع الرواتب، أو زيادة العلاوات، أو خفض الضرائب وغيرها من الأدوات والوسائل التي تزيد دنانير معدودة على دخل المواطن وراتبه الشهري.

 

ولكن في الوقت نفسه رفع مستوى معيشة المواطن، أو تحسين نوعية حياته لا تعني في تقديري فقط الناحية الاقتصادية، فهناك مناحي وجوانب أخرى ربما تكون أفضل من الجانب المالي، وأكثر استدامة وتطوير وتحسين لحياته ومعيشته على المدى البعيد، وبالأخص هنا الجانب الصحي البيئي، وتحسين نوعية عناصر البيئة التي يعيش فيها الإنسان ويتعرض لها كل ثانية من حياته.

 

فعندما يعيش الإنسان في بيئة صحية ونظيفة فإن ذلك ينعكس مباشرة على نوعية حياته ومستوى المعيشة التي يعيش فيها، فاستنشاق الهواء الصحي النقي الخالي من الشوائب والملوثات المسببة للأمراض والأسقام الحادة والمزمنة تُنمي من حياة الإنسان، وتحسن وتطور من جودة ومستوى معيشته، فيطول عمره، ويكون دائماً صحيح الجسد والنفس، فلا يحتاج إلى صرف ماله وانفاقه على علاج أمراضه في الحالات والظروف التي يكون فيها الهواء مشبعاً بالملوثات، كذلك الحال بالنسبة لشرب المياه الصافية والعذب الزلال التي تنزل برداً وسلاماً على جسده بدلاً من المياه مرتفعة الملوحة، أو التي تدخل فيها الملوثات التي تُعكر معيشته وصفاء حياته، وتُنزل من مستوى راحته ونوعية معيشته وتعرضه للأمراض المكلفة مالياً.

 

لذلك فالتركيز فقط على الجانب المادي الاقتصادي لا يكون مجدياً في رفع مستوى معيشة المواطن "الكلية"، وتحسين نوعية حياته الإجمالية في جميع جوانبها، فالمال الزهيد الذي سيحصل عليه من الحكومة سيضطر المواطن إلى إنفاقه لعلاج علله وأسقامه إذا لم نركز في الوقت نفسه، وبالقدر نفسه من الاهتمام والتشديد على أن يكون الهواء الذي نستنشقه كل ثانية من حياتنا مُعيناً على رفع مستوى معيشتنا الجسدية والنفسية والعقلية، وداعماً لتحسين كافة جوانب أمننا الصحي.

 

وهناك الكثير من الدراسات والتقارير التي نَشرتْها منظمات الأمم المتحدة المختلفة، إضافة إلى أبحاث الجامعات والمعاهد العلمية التي تقدم الدليل الدامغ والشافي حول الجوانب الاقتصادية لتلوث الهواء في كل دول العالم، ودوره السلبي الفاعل والكبير في خفض وتدهور مستوى ونوعية معيشتنا، أو بعبارة أخرى الكلفة المالية النقدية الباهظة للهواء الملوث، وكم سينفق ويدفع الإنسان على المستوى الفردي والحكومي إذا تعرض سنوات طويلة من حياته للهواء الملوث، وعاش في بيئة تعاني من فساد الهواء، وتلوث المياه، وتلف التربة.

 

 فعلى سبيل المثال، هناك تقرير البنك الدولي المنشور في 31 يناير 2022 تحت عنوان: "الكلفة الصحية الدولية لتلوث الهواء من الجسيمات الدقيقة: حالة لاتخاذ الإجراء بعد 2021"، حيث قدَّر التقرير الخسائر الاقتصادية الناجمة عن تدهور نوعية الهواء في العالم بنحو 8.1 تريليون دولار، أو ما يعادل 6.1% من "الناتج المحلي الإجمالي"(جي دي بي) العالمي. وهذا التقرير استند على عدة دراسات علمية حول الجوانب الصحية لتلوث الهواء، ففي عام 2000 كان عدد البشر الذين قضوا نحبهم بسبب التلوث قرابة 3.8 مليون، ثم تضاعف العدد إلى 6.4 مليون في عام 2019، وفي عام 2022 ارتفع عدد الوفيات إلى 9 ملايين، أي واحد من كل 6 إنسان من سكان الأرض يموت بسبب التعرض لتلوث الهواء، حسب التقرير المنشور في 17 مايو 2022 في مجلة "اللانست"(The Lancet Planetary Health).

 

كذلك نُشرت دراسة على المستوى الدولي في مجلة "البيئة العالمية"(Environment International) في 16 يونيو 2021، حيث قدَّمت تحليلاً وتقيماً بيئياً وصحياً واقتصادياً للتعرض لتلوث الهواء أثناء قيادة السيارة في عشر مدن حول العالم، وبالتحديد بالنسبة للدخان. ومن هذه المدن دكا في بنجلادش، والسليمانية في العراق، ودار السلام في تنزانيا، وأديس أبابا في أثيوبيا، والقاهرة، وسان باولو في البرازيل، حيث أكدت الكلفة العالية الناجمة عن التعرض للملوثات، ففي القاهرة بلغت الخسائر الاقتصادية زهاء 8.9 مليون دولار، وفي دار السلام 10.2 مليون.

 

كما نَشرتْ مجلة "الغلاف الجوي"( Atmosphere)في 18 نوفمبر 2020 بحثاً تحت عنوان: "صحة الإنسان والكلفة الاقتصادية لتلوث الهواء في ولاية يوتاه الأمريكية"، حيث أفادت الدراسة بأن تلوث الهواء يسبب ما يتراوح بين 2480 إلى 8000 وفاة مبكرة سنوياً، ويخفض من مستوى حياة الإنسان من 1.1 سنة إلى 3.6 سنة، كما قدَّرت الدراسة الكلفة الاقتصادية الإجمالية لتلوث الهواء بما تتراوح بين 0.75 إلى 3.3 بليون دولار، أي نحو 1.7% من "الناتج المحلي الإجمالي" للولاية.

 

وعلاوة على ذلك، فقد نشرتْ "المجلة العالمية للأبحاث البيئة والصحة العامة"(International Journal on Environmental Research and Public Health)" دراسة في السابع من فبراير 2023 تحت عنوان: "تأثيرات تلوث الهواء على الصحة وكلفة الأمراض في جاكرتا، أندونيسيا". وقد توصلت الدراسة إلى نتيجة عامة بأن الكلفة الإجمالية للتداعيات الصحية الناجمة عن فساد الهواء الجوي في جاكرتا قر ابة 2943 مليون دولار أمريكي، في حين أن تقرير البنك الدولي المنشور عام 2019 أشار إلى أن تلوث الهواء يكلف أندونيسيا سنوياً 220 بليون دولار، أي 6.6% من جي دي بي للدولة برمتها.

 

وفي الهند نُشرتْ دراسة في أبريل 2020 في المجلة الدولية لعلم الأوبئة " تحت عنوان:" مخاطر العدوى التنفسية الحادة الناجمة عن حرق المحاصيل في الهند: تقدير عبء المرض والرفاه الاقتصادي من بيانات الدراسات الاستقصائية الصحية والأقمار الصناعية والوطنية لـ 250 ألف شخص"، حيث توصلت الدراسة إلى أن الخسائر الاقتصادية لتلوث الهواء على مدى خمس سنوات تُقدر بنحو 1.5 بليون دولار". 

 

وختاماً فإننا عند اهتمامنا بجودة الهواء والماء والتربة سنضرب عدة عصافير بحجرٍ واحد، وهذا الاهتمام له تداعيات إيجابية طويلة المدى على جيب الفرد والمجتمع وميزانية الدولة، كما أنه يصب في سياسية التنمية البشرية المستدامة المعلنة للحكومة، وهي أن يعيش الإنسان حياة مستدامة كريمة وطيبة من خلال رفع المستوى المعيشي "الإجمالي"، بيئياً واقتصادياً واجتماعياً، فهذه السياسية سترفع من المستوى المعيشي ونوعية الحياة التي يعيشها المواطن من الناحية الاقتصادية، جنباً إلى جنب مع الناحيتين البيئية والاجتماعية.

 

الخميس، 4 مايو 2023

تلوث الهواء يقتل فلذات أكبادنا


أول شهادة وفاة تَصدر في تاريخ البشرية ويُكتب فيها بأن تلوث الهواء هو سبب الوفاة، حيث اتخذتْ محكمة في العاصمة البريطانية لندن في 16 ديسمبر 2020 قراراً تاريخياً لم ينعكس على بريطانيا فحسب، وإنما انتقل صداه ليعمَّ العالم أجمع، وينقش بصماته في كتب التاريخ البيئي عامة.

 

فربما ولأول مرة تُصدر الجهات المعنية بإخراج شهادات الوفيات في بريطانيا، شهادة وفاة لطفلة صغيرة في السن لا يتجاوز عمرها التسع سنوات، وتؤكد بأن سبب وفاة هذه الطفلة هو "تلوث الهواء" والتعرض للملوثات الخطرة الموجودة في هوائنا من السيارات ومحطات توليد الكهرباء والمصانع. وهذه الشهادة مستندة على قرار هذه المحكمة الذي أثبت بعد سبع سنوات من المداولات الماراثونية، وبعد مخاضٍ طويل وعسير بأن تلوث الهواء قد ساهم فعلاً في قتل هذه الطفلة اللندنية، حيث جاء في قرار القاضي بأن هذه الطفلة قد انتقلت إلى مثواها الأخير "بسبب إصابتها بالربو، وأن تعرضها للهواء الجوي الملوث ساهم في سرعة موتها"، كما صدر عن القاضي أيضاً بأن: "المصدر الرئيس لتعرضها للملوثات التي أدت إلى موتها هو الانبعاثات من عوادم السيارات".

 

واليوم، وبالتحديد في 24 أبريل 2023 نشرتْ وكالة حماية البيئة الأوروبية تقريراً ضمن سلسلة من التقارير السنوية حول "جودة الهواء في أوروبا"، حيث جاء هذا التقرير الأخير تحت عنوان: "حالة جودة الهواء الأوروبية لعام 2023"، وغطى 37 دولة من الاتحاد الأوربي، إضافة إلى دول أوروبية أخرى مثل تركيا، وصربيا، وكوسوفو، ومونتينيجرو.

 

وقد ركز التقرير الحالي على قضية صحية مهمة جداً لكل إنسان على وجه الأرض، سواء أكان غنياً أم فقيراً، مثقفاً أم جاهلاً، وهي أن تلوث الهواء الجوي في القارة الأوروبية يؤدي إلى قتل نحو 1200 طفل أوروبي سنوياً، فينقلهم إلى مثواهم الأخير وهم في ريعان شبابهم وفي سن مبكرة، كما يرفع تلوث الهواء الجوي الذي يتعرض له المواطن الأوروبي من مستوى مخاطر التعرض لأمراض القلب، والجهاز التنفسي، والالتهابات، والحساسية المزمنة، إضافة إلى الأمراض العقلية والنفسية.

 

فالطفل لو وضعية خاصة مقارنة بالإنسان الشاب، فهو يتعرض ويتأثر بالملوثات وهو جنين في رحم أمه، فالمرحلة الأولى لاستنشاقه للهواء الملوث تبدأ في هذه المرحلة التكوينية من حياته، ولمدة أكثر تسعة أشهر طويلة، فيؤثر التلوث، ولو كانت نسبته منخفضة، على نمو وبناء أعضائه في تلك المرحلة المبكرة، كما يؤثر في الوقت نفسه على تاريخ الولادة، وفي بعض الحالات يخرج من الدنيا مبكراً قبل موعده، كما قد يسبب تلوث الهواء الشديد الإجهاض في حالات أخرى، أو يلد ووزنه منخفض جداً مقارنة بالطفل الطبيعي والسليم. وبعد أن يخرج من بطن أمه، فإن أعضاء جسده لا تزال في طور النمو والتكوين، وتعرضه للملوثات في هذه المرحلة تكون أشد وطأة وتنكيلاً بصحته مقارنة بتعرضه عندما يكون شاباً مكتمل نمو الأعضاء الداخلية والخارجية.

 

وعلاوة على اهتمام التقرير بصحة الطفل وتداعيات تلوث الهواء على أمنه وسلامته، فإن التقرير خرج بعدة استنتاجات خطيرة تؤكد تهديدات تلوث الهواء للصحة العامة بشكلٍ عام، كما يلي:

أولاً: مازال تلوث الهواء يُشكل المعضلة الصحية الرئيسة للقارة الأوروبية، ويعتبر من أهم التهديدات التي تواجه صحة المواطن الأوروبي.

ثانياً: قرابة 97% من سكان المدن الحضرية في أوروبا يتعرضون ويستنشقون هواءً ملوثاً مشبعاً بالدخان، أو المعروف بالجسيمات الدقيقة، وهذه المستويات التي يتعرضون لها لا تتوافق مع الخطوط الإسترشادية ومواصفات منظمة الصحة العالمية لعام 2021 بالنسبة للمستويات المسموح بها للجسيمات الدقيقة التي قطرها أقل من 2.5 ميكروميتر في الهواء الجوي، وهي 5 ميكروجرامات من الدخان في المتر المكعب من الهواء الجوي في السنة. وقد صنَّفت منظمة الصحة العالمية الجسيمات الدقيقة بأنها من الملوثات التي تسبب السرطان، فهي بسهولة ويسر تصل إلى الرئتين، ومنها تنتقل إلى مجرى الدم وإلى جميع الخلايا البشرية، كما أن هذه الجسيمات الدقيقة لها القدرة على الوصول إلى خلايا المشيمة في الأم الحامل، ومنها إلى الجنين.

ثالثاً: مستويات الدخان، وغاز الأوزون، وثاني أكسيد النيتروجين في الهواء الجوي في القارة الأوروبي أعلى من المستويات التي وضعتها منظمة الصحة العالمية.

 

وهذه الحالة الأوروبية المتعلقة بتدهور نوعية الهواء ليست فريدة من نوعها، وليست مستقلة عما يحدث في الدول الأخرى فهي تنطبق على معظم دول العالم، حيث أكدت منظمة الصحة العالمية في عام 2021 بأن 97% من سكان العالم يعيشون في بيئة هواؤها ملوث ويتجاوز معايير المنظمة، كما قدَّرت المنظمة بأن هناك أكثر من سبعة ملايين من بني آدم يوارى جثمانهم الثرى سنوياً نتيجة للعيش في بيئة مُلوثَة الهواء الجوي.

 

وانطلاقاً من هذه الحالة المأساوية لجودة الهواء حول العالم أجمع، صرح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في 27 أكتوبر 2018 بأن تلوث الهواء أصبح الآن "حالة صحية طارئة وصامتة"، حيث قال: "لقد تجاوز العالم منعطف التبغ، ونواجه الشيء نفسه في الهواء السام الذي نستنشقه، والذي يُعد التبغ الجديد، فلا أحد يَسْلم من تلوث الهواء، لا غني ولا فقير، إنها حالة صحية طارئة وصامتة"، وعلاوة على تحذيرات رئيس المنظمة نفسه، فإن المنظمة ممثلة في الوكالة الدولية لأبحاث السرطان قامت في عام 2015 بتصنيف "الهواء الجوي" بأنه من أسباب الإصابة بالسرطان للإنسان.

 

فبعد كل هذه الأدلة الدامغة والمتواترة على تورط تلوث الهواء في قتل البشر في كل أنحاء المعمورة، لا بد على الجميع أفراداً، وشعوباً، وحكومات، ومجالس نيابية أن يُعطوا جل اهتمامهم وعنايتهم بهذه القضية الشائكة التي تهلك يومياً أطفالنا، وشبابنا، وشيوخنا على حدٍ سواء، وبالتحديد معالجة الملوثات التي تنجم عن السيارات أولاً، ثم محطات توليد الكهرباء والمصانع ثانياً.

الاثنين، 1 مايو 2023

دور تلوث الهواء في تكوين الخلايا السرطانية

مازال مرض السرطان العقيم المستعصي على العلاج يُحير العلماء في ما يتعلق بمصدر المرض، وأسبابه، وآلية تحكمه في خلايا الجسم الصحيحة والسليمة، وتحويلها من خلايا مثمرة ومنتجة تقوم بدورها ووظيفتها البناءة المُقَوية لجسم الإنسان، إلى خلايا عليلة تنمو بدرجة طفرية سريعة، وتتحول إلى خلايا متورمة ومدمرة لأعضاء جسم الإنسان، فتؤدي وظيفة تلف الخلايا كلها، وإضعافها ونشرها في كل عضو من أعضائه. 

ففي الكثير من الحالات من مرضى السرطان لا يستطيع الأطباء تحديد سبب المرض، ولا يمكنهم معرفة العوامل التي أدت إلى الإصابة بهذا المرض الخبيث الغامض الفريد من نوعه.

ولذلك اتجهت جهود العلماء منذ أن تم اكتشاف المرض إلى الإجابة عن عدة أسئلة، منها العوامل المسببة للمرض، ومنها آلية نشوء الخلايا السرطانية وكيفية هجومها المباشر وافتراسها للخلايا العاملة السليمة.

وقد نجح العلماء بعد جهود بحثية مخبرية وميدانية استمرت قرابة مائة عام إلى الوصول إلى الإجابات عن بعض الأسئلة وفك ألغازها الغريبة والمتعلقة بأسباب المرض، مثل دور سلوكيات الإنسان وعاداته في الوقوع في هذا المرض، وبالتحديد التدخين، وشرب الخمر، وتعريض الجسم للأشعة فوق البنفسجية في صالونات "التانينج"، أو صالونات تغيير لون البشرة، إضافة إلى العمل في مهن كالمصانع والورش التي تنبعث عنها ملوثات تسبب السرطان.

واليوم يقدم الباحثون الإجابة عن كيفية وآلية افتراس السرطان للخلايا الصحيحة وانكشاف الأورام السرطانية بعد فترة من الزمن، ويطرحون نظرية جديدة متعلقة بدور تلوث الهواء، كأحد العوامل التي تصيب الإنسان بالسرطان، وبالتحديد عند التعرض لفترة طويلة من الزمن للدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي قطرها أقل من 2.5 ميكروميتر (PM2.5).

أما النظرية الأولى حول ظهور مرض السرطان وآلية بدئه وانتشاره في الجسم فقد نُشرت قبل نحو 76 عاماً، وبالتحديد في عام 1947، حيث أفادت بأن نمو وتطور السرطان يكون على مرحلتين، أو عمليتين تحدثان في جسم الإنسان، الأولى هي حدوث طفرة(mutation) في الخلايا الصحيحة السليمة، أي الخطوة التي تبدأ في تغيير هوية الخلية من خلية سليمة إلى خلية غير سليمة وغير طبيعية، والثانية هي تحفيز نمو الورم من خلال التهابات في الأنسجة وتطور الخلية إلى خلية سرطانية تنمو بطريقة غير طبيعية وبسرعة شديدة.

واليوم تَنْشُر مجلة "الطبيعية"(Nature) المرموقة دولياً بحثاً يُقدم تفسيراً ونموذجاً جديداً مختلفاً عن النظرية الأولى من خلال مثالٍ متعلقٍ بدور تلوث الهواء، وبالتحديد دور الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي تنبعث من السيارات ومحطات توليد الكهرباء والمصانع في البدء في تحفيز وتنشيط الخلايا السرطانية، ثم التطور السريع ونمو الورم. وهذه الدراسة نُشرت في الخامس من أبريل 2023، تحت عنوان: "تعزيز سرطان الرئة الغُدِّيَّة بوساطة الجسيمات الدقيقة"، وهذا هو أحد أنواع الأورام السرطانية المختلفة التي تسمى "أدينو كارسينوما" (adenocarcinoma).

وقد قام الباحثون بتحليل نوعين من المعلومات، الأول عينة مكونة من 32957 حالة من المصابين بنوع محدد من سرطان الرئة(أدينو كارسينوما) الذي ليس له علاقة بالتدخين، في أربع دول هي إنجلترا، وكندا، وكوريا الجنوبية، وتايوان، والنوع الثاني فهو تجارب على الفئران لدعم الاستنتاجات التي نجمت عن تحليل المعلومات عن مرضى سرطان الرئة.

أما النظرية التي توصلت إليها الدراسة، وجاءت بالتفسير الجديد المختلف عن النظريات السابقة فهي أن تلوث الهواء، وبالتحديد بالدخان أو الجسيمات الدقيقة يسبب أولاً التهابات في خلايا الرئة، ولكن دون الإضرار أو تغيير صفات وخصائص المادة الوراثية للإنسان، أو الحمض النووي الموجود في الخلية والمعروف بالـ "دي إن أي"(DNA)، أي أن الطفرة التي تَحْدُث في الخلايا ليست "طفرة جينية" تقع على الـ "دي إن أي" فتتلف الجينات، وإنما تقوم الجسيمات الدقيقة، أو تلوث الهواء بإحداث الالتهاب للخلية، وهذا الالتهاب يمثل بيئة مناسبة ومحفزة ومنشطة لبدء(Initiation) وإحياء نمو الخلايا السرطانية، والتي بدورها تؤدي مع الوقت إلى نمو وانتشار الورم.   

وبعبارة أخرى أكثر بساطة فإن هذه النظرية تقول لنا بأن تلوث الهواء ممثلاً في الجسيمات الدقيقة وملوثات أخرى، تحفز وتنشط الخلايا التي تحتوي على طفرات طبيعية موجودة أصلاً في جينات الإنسان، فعندما يتعرض الإنسان للتلوث لفترات طويلة من الزمن يسبب التهابات مزمنة في الخلية ويوقظ هذه الطفرات النائمة، ويجعلها تنشط فتبدأ في النمو غير الطبيعي للخلايا السرطانية، وتظهر على شكل أورام في جسم الإنسان.

ولذلك كان من الطبيعي أن تُصنِّف "الوكالة الدولية لأبحاث السرطان" (International Agency for Research on Cancer)، وهي من وكالات منظمة الصحة العالمية، "تلوث الهواء" و "الجسيمات الدقيقة" بأنهما "مسرطنة للإنسان"، وحسب الدراسة المنشورة في التاسع من أكتوبر 2020 في مجلة "شؤون صحة البيئة"(Environmental Health Perspective) تحت عنوان: "التعرض للجسيمات الدقيقة وحالات السرطان"، فإن الدخان لا يسبب سرطان الرئة فقط، وإنما له علاقة بالإصابة بسرطان الفم، والمستقيم، والكبد، والثدي، والكلية.

فهذه النتائج المخيفة من المفروض أن تكون ورقة عمل تناقش على أعلى المستويات الحكومية بدءاً بمجلس الوزراء لوضع سياسات محددة تهدف إلى خفض مستويات تلوث الهواء بشكلٍ عام، والتلوث من الدخان أو الجسيمات الدقيقة بصفة خاصة، وتبني منهج المنع من مصادر التلوث كأولوية، ثم علاج الملوثات قبل انطلاقها من مصادرها كأولوية ثانية، وستكون لهذه السياسات مردودات إيجابية كبيرة من الناحية البيئية، والصحية، والاقتصادية.