الاثنين، 1 مايو 2023

دور تلوث الهواء في تكوين الخلايا السرطانية

مازال مرض السرطان العقيم المستعصي على العلاج يُحير العلماء في ما يتعلق بمصدر المرض، وأسبابه، وآلية تحكمه في خلايا الجسم الصحيحة والسليمة، وتحويلها من خلايا مثمرة ومنتجة تقوم بدورها ووظيفتها البناءة المُقَوية لجسم الإنسان، إلى خلايا عليلة تنمو بدرجة طفرية سريعة، وتتحول إلى خلايا متورمة ومدمرة لأعضاء جسم الإنسان، فتؤدي وظيفة تلف الخلايا كلها، وإضعافها ونشرها في كل عضو من أعضائه. 

ففي الكثير من الحالات من مرضى السرطان لا يستطيع الأطباء تحديد سبب المرض، ولا يمكنهم معرفة العوامل التي أدت إلى الإصابة بهذا المرض الخبيث الغامض الفريد من نوعه.

ولذلك اتجهت جهود العلماء منذ أن تم اكتشاف المرض إلى الإجابة عن عدة أسئلة، منها العوامل المسببة للمرض، ومنها آلية نشوء الخلايا السرطانية وكيفية هجومها المباشر وافتراسها للخلايا العاملة السليمة.

وقد نجح العلماء بعد جهود بحثية مخبرية وميدانية استمرت قرابة مائة عام إلى الوصول إلى الإجابات عن بعض الأسئلة وفك ألغازها الغريبة والمتعلقة بأسباب المرض، مثل دور سلوكيات الإنسان وعاداته في الوقوع في هذا المرض، وبالتحديد التدخين، وشرب الخمر، وتعريض الجسم للأشعة فوق البنفسجية في صالونات "التانينج"، أو صالونات تغيير لون البشرة، إضافة إلى العمل في مهن كالمصانع والورش التي تنبعث عنها ملوثات تسبب السرطان.

واليوم يقدم الباحثون الإجابة عن كيفية وآلية افتراس السرطان للخلايا الصحيحة وانكشاف الأورام السرطانية بعد فترة من الزمن، ويطرحون نظرية جديدة متعلقة بدور تلوث الهواء، كأحد العوامل التي تصيب الإنسان بالسرطان، وبالتحديد عند التعرض لفترة طويلة من الزمن للدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي قطرها أقل من 2.5 ميكروميتر (PM2.5).

أما النظرية الأولى حول ظهور مرض السرطان وآلية بدئه وانتشاره في الجسم فقد نُشرت قبل نحو 76 عاماً، وبالتحديد في عام 1947، حيث أفادت بأن نمو وتطور السرطان يكون على مرحلتين، أو عمليتين تحدثان في جسم الإنسان، الأولى هي حدوث طفرة(mutation) في الخلايا الصحيحة السليمة، أي الخطوة التي تبدأ في تغيير هوية الخلية من خلية سليمة إلى خلية غير سليمة وغير طبيعية، والثانية هي تحفيز نمو الورم من خلال التهابات في الأنسجة وتطور الخلية إلى خلية سرطانية تنمو بطريقة غير طبيعية وبسرعة شديدة.

واليوم تَنْشُر مجلة "الطبيعية"(Nature) المرموقة دولياً بحثاً يُقدم تفسيراً ونموذجاً جديداً مختلفاً عن النظرية الأولى من خلال مثالٍ متعلقٍ بدور تلوث الهواء، وبالتحديد دور الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي تنبعث من السيارات ومحطات توليد الكهرباء والمصانع في البدء في تحفيز وتنشيط الخلايا السرطانية، ثم التطور السريع ونمو الورم. وهذه الدراسة نُشرت في الخامس من أبريل 2023، تحت عنوان: "تعزيز سرطان الرئة الغُدِّيَّة بوساطة الجسيمات الدقيقة"، وهذا هو أحد أنواع الأورام السرطانية المختلفة التي تسمى "أدينو كارسينوما" (adenocarcinoma).

وقد قام الباحثون بتحليل نوعين من المعلومات، الأول عينة مكونة من 32957 حالة من المصابين بنوع محدد من سرطان الرئة(أدينو كارسينوما) الذي ليس له علاقة بالتدخين، في أربع دول هي إنجلترا، وكندا، وكوريا الجنوبية، وتايوان، والنوع الثاني فهو تجارب على الفئران لدعم الاستنتاجات التي نجمت عن تحليل المعلومات عن مرضى سرطان الرئة.

أما النظرية التي توصلت إليها الدراسة، وجاءت بالتفسير الجديد المختلف عن النظريات السابقة فهي أن تلوث الهواء، وبالتحديد بالدخان أو الجسيمات الدقيقة يسبب أولاً التهابات في خلايا الرئة، ولكن دون الإضرار أو تغيير صفات وخصائص المادة الوراثية للإنسان، أو الحمض النووي الموجود في الخلية والمعروف بالـ "دي إن أي"(DNA)، أي أن الطفرة التي تَحْدُث في الخلايا ليست "طفرة جينية" تقع على الـ "دي إن أي" فتتلف الجينات، وإنما تقوم الجسيمات الدقيقة، أو تلوث الهواء بإحداث الالتهاب للخلية، وهذا الالتهاب يمثل بيئة مناسبة ومحفزة ومنشطة لبدء(Initiation) وإحياء نمو الخلايا السرطانية، والتي بدورها تؤدي مع الوقت إلى نمو وانتشار الورم.   

وبعبارة أخرى أكثر بساطة فإن هذه النظرية تقول لنا بأن تلوث الهواء ممثلاً في الجسيمات الدقيقة وملوثات أخرى، تحفز وتنشط الخلايا التي تحتوي على طفرات طبيعية موجودة أصلاً في جينات الإنسان، فعندما يتعرض الإنسان للتلوث لفترات طويلة من الزمن يسبب التهابات مزمنة في الخلية ويوقظ هذه الطفرات النائمة، ويجعلها تنشط فتبدأ في النمو غير الطبيعي للخلايا السرطانية، وتظهر على شكل أورام في جسم الإنسان.

ولذلك كان من الطبيعي أن تُصنِّف "الوكالة الدولية لأبحاث السرطان" (International Agency for Research on Cancer)، وهي من وكالات منظمة الصحة العالمية، "تلوث الهواء" و "الجسيمات الدقيقة" بأنهما "مسرطنة للإنسان"، وحسب الدراسة المنشورة في التاسع من أكتوبر 2020 في مجلة "شؤون صحة البيئة"(Environmental Health Perspective) تحت عنوان: "التعرض للجسيمات الدقيقة وحالات السرطان"، فإن الدخان لا يسبب سرطان الرئة فقط، وإنما له علاقة بالإصابة بسرطان الفم، والمستقيم، والكبد، والثدي، والكلية.

فهذه النتائج المخيفة من المفروض أن تكون ورقة عمل تناقش على أعلى المستويات الحكومية بدءاً بمجلس الوزراء لوضع سياسات محددة تهدف إلى خفض مستويات تلوث الهواء بشكلٍ عام، والتلوث من الدخان أو الجسيمات الدقيقة بصفة خاصة، وتبني منهج المنع من مصادر التلوث كأولوية، ثم علاج الملوثات قبل انطلاقها من مصادرها كأولوية ثانية، وستكون لهذه السياسات مردودات إيجابية كبيرة من الناحية البيئية، والصحية، والاقتصادية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق