الجمعة، 14 يونيو 2019

فَاليومَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آية(2 من 2)



في الجزء الأول من هذا المقال تناولتُ ظاهرة وجود بعض الحوادث التاريخية المخلدة في ذاكرة الأمم والشعوب والتي نَقشتْ وحفرت لنفسها مكاناً بارزاً في صفحات التاريخ التي لا تنسى ولا يطوي عليها الدهر، كحادثة غرق الطاغية فرعون وجنوده الذي استعبد شعبه وظلمهم وهتك أعراضهم، فبعد غرقه أراد رب العالمين أن يكون عبرة وعظة لكل من يريد أن يتعظ ويتعلم من أخطاء غيره، فأنجا الله بَدَنه وجعله جثة هامدة على ساحل البحر يراها الناس في زمانه، ثم خلَّد الله جلَّت قدرته هذه الحادثة للعالمين من خلال الآيات القرآنية الكثيرة التي قدَّمت لنا بعض التفاصيل حول حياته ومماته.

وفي المقابل فإن هناك حوادث أخرى ليست لها صبغة دينية، ولكنها كوارث بيئية تنزل علينا بين الحين والآخر، فمنها ما صعق المجتمع البشري في القرن المنصرم، ومنها ما نزل علينا في السنوات القليلة الماضية، فهذه الكُربْ البيئية العصيبة أيضاً في تقديري سيُكتب لها الخلود والبقاء حية لقرون كثيرة قادمة، وآثارها علينا ستنبض بالحياة في أجسادنا لأجلٍ غير مسمى، وقد ذكرتُ في الجزء الأول من المقال مثالاً واحداً وقع في الستينيات من القرن المنصرم ومازال يُبعث من قبره بين فترة وأخرى، واليوم سأضرب لكم مثالين آخرين لأُثبت صحة ادعائي. 

فهذه الطامة الكبرى بدأتْ مشاهدها الخفية منذ العشرينيات من القرن المنصرم، أي قبل قرابة مائة عام، عندما قام أحد المصانع بصرف مخلفاته السائلة في خليج ميناماتا في اليابان، ولكن مشكلة هذه المخلفات أنها كانت تحتوي على عنصر الزئبق السام الذي لا يتغير ولا يتحلل عندما يدخل في مياه البحر، فله القدرة الكامنة على الاستقرار والثبات في الكائنات البحرية والتراكم فيها وارتفاع تركيزه مع الوقت وفي السلسلة الغذائية البحرية التي تنتهي بالأسماك. فعندما أكل سكان القرية هذه الأسماك الملوثة بالزئبق ظهرت عليهم   وعكات حادة شديدة وآلام في المفاصل، وتدمير شامل للجهاز العصبي، وشلل في الأيدي والأطراف، وعدم القدرة على التحكم في أعضاء الجسم، وفقدان البصر، ثم الموت المفاجئ، فكانت هذه المناظر العصيبة التي وقعت أمامهم تُنسى الوالدةُ رضيعَها، وتُسْقط الحامل حملها من الرعب، فأصبحوا كالسكارى من شدة الهول والفزع الذي حلًّ بهم، وليسوا بسكارى من الخمر، ولكن شدة المعاناة والألم النفسي والجسدي أفقدتهم عقولهم وإدراكهم وإحساسهم. واستمرت معاناة الناس سنواتٍ طويلة حتى استطاع الأطباء في الخمسينيات من القرن المنصرم فك خيوط هذا اللغز المعقد والوصول إلى مصدر السم وهو المصنع.

فهذه الكارثة لم تنته عند هذا الحد ولن تنته في الزمن المنظور، فقد كتب الله لها الخلود والبقاء لعقودٍ طويلة قادمة، فالسموم التي دخلت في أجسام الآباء انتقلت إلى الأبناء والأحفاد وورثتها الأجيال واحدة تلو الأخرى، فهناك من أنجاهم الله بأبدانهم وأرواحهم حتى يومنا هذا وهم يعانون من تداعيات هذه الكارثة، فهم شهداء أحياء عليها، ويُذكِّرون الناس بها، ويرون قصة الآلام والمعاناة التي يقاسون منها.

وعلاوة على هؤلاء المرضى الذين يجَسِّدون بوجودهم ذكرى هذه الكارثة، فهناك عدة أمور وقعتْ تجعلني أؤكد بأن هذه الكارثة المؤلمة ستكون مخلدة لا تنسى أبداً، ليست في قلوب ونفوس الشعب الياباني فحسب وإنما في قلوب العالم أجمع. فالأمر الأول هو أن اليابان تحتفل سنوياً في الأول من مايو لإحياء ذكرى هذه الكارثة، والثاني أن اليابان أنشأت متحفاً خاصاً لتخليد ذكرى هذا المصاب الجلل ويُطلق عليه "المتحف البلدي لمرض ميناماتا"، والثالث هو أن مصنع الأفلام في هوليود سيُنتج فيلماً اسمه "ميناماتا"، ويشارك فيه كبار الممثلين وعلى رأسهم الممثل الأمريكي المشهور جوني دِب، والرابع هو أن دول العالم ممثلة في الأمم المتحدة وافقت على معاهدة حول الزئبق أُطلق عليها "اتفاقية ميناماتا"، والتي دخلت حيز التنفيذ في أغسطس 2017.

أما المثال الثاني فهو حدث تاريخي أمني ولكن تداعياته ليست أمنية وعسكرية فحسب، وإنما هي بيئية في الوقت نفسه، فهي إذن كارثة إنسانية بيئية في المقام الأول، وستكون واقعة أمامنا نشاهدها بأم أعيننا مهما طال الزمن. هذا الكرب العظيم أوقعه الجيش الأمريكي على مدينتي هيروشيما وناجازاكي في اليابان، وكان هذا الحدث الرهيب هو الذي أنهى حرباً كانت الأشد ضراوة والأكثر تنكيلاً بالبشرية جمعاء، وهي الحرب العالمية الثانية. ففي السادس من أغسطس عام 1945، ألقت الولايات المتحدة الأمريكية لأول مرة، وقد تكون آخر مرة في تاريخ البشرية قنبلة الدمار الشامل الذرية النووية المدمرة للحرث والنسل والمهلكة للبشر والحجر، فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر، حيث مات فوراً أكثر من 80 ألف من سكان مدينة هيروشيما وتعرض عشرات الآلاف للإشعاعات القاتلة وأصيبوا بأمراضٍ مزمنة مستعصية على العلاج، فورثوا هذه الأمراض لأحفادهم والأجيال اللاحقة من بعدهم.

وعلاوة على هذه المأسي التي خلدتها كتب التاريخ وحُفرت في ذاكرة الشعب الياباني وشعوب العالم على حدٍ سواء، فهناك من مواد مشعة خالدة مازالت موجودة في تلك المدينتين، ومنها قميص مشع كانت ترتديه بنت يابانية عندما أُلقيت القنبلة على هيروشيما قبل 74 عاماً، حيث احتفظت هذه البنت التي بلغت من العمر الآن 90 عاماً بالقميص ودون أن تعلم طوال السنوات الماضية بأنه مشع. 

فقد قام أحد العلماء في السادس من أغسطس 2018 في الذكرى السبعين لهذه الطامة الكبرى بإجراء تحليل مخبري على هذا القميص، وتأكد بالتجربة العلمية أن هذا القميص مازال مشعاً، وتنطلق منه منذ ذلك الوقت الملوثات المشعة، ولا يعلم إلا الله إلى متى سيظل هذه القميص مشعاً. ومن أجل تخليد ذكرى هذا التلوث الإشعاعي وتلك الفترة العصيبة التي مرَّت بها اليابان، فقد تم مؤخراً وضع هذا القميص في متحف هيروشيما للسلام لكي يكون شاهداً حياً على ذلك اليوم العظيم، فيحكي قصته، ويروي بوجوده أمام العالمين الفظائع المؤلمة غير المسبوقة في تاريخ البشرية، فيخلد ذكرى تداعيات سقوط هذه القنبلة ويبين للبشرية جمعاء درجة تدميرها للإنسانية ومكتسباته التنموية.

فلعل من فضل الله علينا أن خلَّد هذه الكُرب البيئية جيلاً بعد جيل لتكون لنا هدى وآية وعظة نتأمل بها، ونعتبر منها، فتكون دائماً ماثلة أمامنا كالدروس الحية التي لا تُنسى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق