الأربعاء، 12 يونيو 2019

فَاليومَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آية(1 من 2)


هناك حوادث وكوارث تنزل على المجتمع البشري اليوم فينساها الناس بعد أيامٍ معدودات، وتغيب عن الذاكرة سريعاً وكأنها لم تقع وتذهب مع الريح في طي النسيان، وفي المقابل هناك حوادث تنزل علينا فتبقى خالدة مخلدة في ذاكرة البشرية جمعاء، تنبض بالحياة حتى ولو مضت عليها السنون الطوال، فكلما توارت قليلاً عن أعين البشر وسمعهم وقعت حادثة أخرى مثلها تماماً ومتعلقة بشكلٍ مباشر بها، فتُحيي ذاكرتنا من جديد، وتبعث فينا روحها مرة ثانية، فتبقى دائماً حية لا تموت. 

فمنذ القدم، ومنذ آلاف السنين، كانت حادثة غرق الطاغية الأكبر فرعون، فخلَّد الله هذه الحادثة التاريخية العظيمة في مدلولاتها والكبيرة في معانيها والحِكَم والفوائد التي يمكن الاستخراج منها، فكان الخلود والبقاء لهذه الحادثة من خلال إنقاذ بَدَنِ فرعون بعد غرقه وجعل جثته ماثلة أمام الناس في تلك الفترة من الزمن، فيَّرونَ جميعاً بأم أعينهم مصير الإنسان الطاغية الجبار الذي يستعبد الناس، كما وصف ربنا في هذه الآية عندما قال: "فَاليَومَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتكُونَ لِمنْ خَلْفَكَ آيَةً، وَإِنَّ كثيرًا منَ الناسِ عن آيَاتِنا لَغَافِلُونَ"، ثم خلَّد الله ذكرى هذه الحادثة لكل الأزمان والعصور حتى يأخذ الله الأرض ومن عليها من خلال وصف هذه الحادثة في القرآن الكريم وهو الكتاب الخالد أبد الدهر.

واليوم أيضاً أَجدُ بعض الكوارث التي صنعتْها أيدي البشر من خلال تلويث البيئة بشكلٍ مُتعمد أو غير متعمد، وسقوط الضحايا البشرية بين جثة هامدة ومرض مزمن مستعصي على العلاج نتيجة للسماح لهذه الملوثات السامة في الولوج إلى عناصر بيئتنا وانتقالها مع الزمن إلى كل أعضاء أجسامنا. فهذه الكوارث أصبحت الآن شاهدة للناس لعقودٍ طويلة من الزمن تُبين ظلم الإنسان لبيئته وتجرعه بنفسه شر ما ارتكبت يداه، حتى أصبحت هذه الكوارث خالدة وباقية في ذاكرة الإنسان لا تمحيها الأيام والسنون، فتظهر من قبورها وتنكشف أمام الناس بين الحين والآخر.

ويرجع السبب في بقاء هذه الحوادث البيئية في مخيلة الناس جيلاً بعد جيل هو أن بعض الملوثات لها خصائص فريدة ومدمرة لأعضاء الإنسان، فهي لها القدرة على التراكم والتضخم في أَبْداننا، ثم الانتقال مع الزمن إلى أبنائنا وإلى أحفادنا، وهكذا إلى الأجيال اللاحقة إلى ما شاء الله، فكلما سقط إنسان صريعاً من جراء هذه الكارثة البيئية، وُلد إنسان آخر وهو يعاني من هذه الملوثات والسموم التي ورثها من والديه، فيكون شاهداً ينبض بالحياة على الكارثة، ويحي هذا المولود الجديد المريض والمعوق جسدياً عند الناس ذكرى هذه الكارثة، ويجدد مشاهد وقوعها أمام الناس وكأنها نزلت بالأمس على البشرية. وفي الوقت نفسه هناك ملوثات لها خاصية الإشعاع فهي تَبْقى مُشعة بعد دخولها في بيئتنا وفي أجسامنا آلاف السنين فتنتقل أيضاً عبر الأجيال من إنسان إلى آخر، وفي كل مَرَّةٍ يولد طفل يعاني من الإشعاع الناجم من تلك الكارثة وقد يكون مصاباً بتشوهات وعيوب خَلْقية فيخلد ذكرى تلك الحادثة عند الناس أجمع.

وهناك أمثلة كثيرة أستطيع أن أُقدمها لكم لأثبت فيها فعلياً وجود مثل هذه الكوارث المخلدة عبر التاريخ والتي تنبع إلى الحياة بين الحين والآخر لتذكر الناس بوجودها وتأثيرها الضارب أطنابه في المجتمعات. وللاختصار فإنني أضرب مثالاً واحداً ذا عبرة كبيرة، وشأن عظيم، وتأثير عصيب، فالحرب الأمريكية الفيتنامية بدأتْ في مطلع الستينيات من القرن المنصرم، أي قبل أكثر من ستين عاماً، وأثناء هذه الحرب استخدم الجيش الأمريكي نحو 12 مليون جالون من مبيدات الأعشاب للقضاء على مخابئ المحارب الفيتنامي وإتلاف مزارع الأرز والمحاصيل الغذائية الأخرى، ولكن ما لم يعرفه الجيش الأمريكي هو أن هذا المبيد كان يحتوي في الوقت نفسه على أخطر مادة صنعها الإنسان، وهي مجموعة مركبات سامة ومسرطنة تُعرف بالـديكسين ولها القدرة على التراكم والتركيز في السلسلة الغذائية وفي جسم الإنسان على حدٍ سواء، وبالتحديد في الدهون، فتؤثر على الجينيات وتسبب لها تغييرات وتشوهات جوهرية على هويتها، مما يعني أن الإنسان يُورِّث أبناءه وأحفاده جينات مشوهة غير سليمة، فتُسبب له إعاقات وتشوهات عضوية وعقلية مشهودة. وهذا التلف والتغير الجيني ينتقل مع الوقت من جيلٍ إلى آخر، ولا ندري متى ستتوقف هذه السلسلة القاتلة، فكل جنِينٍ ولج إلى الدنيا طوال السنوات الماضية والسنوات اللاحقة سيكون شاهداً حياً يبعث ذاكرة الناس من جديد على هذه الكارثة الصحية البيئية.

فهناك نحو ثلاثة ملايين فيتنامي قد تعرضوا لهذا المبيد ومجموعة ملوثات الديكسين بشكلٍ خاص فتشبعت أجسامهم بها، ومازال الجيل الحالي والأجيال المستقبلية تتضرر منها بسبب دخولها في كل مكونات البيئة الحية وغير الحيه، سواء أكانت الهواء أو المياه الجوفية والسطحية أو التربة أو النباتات والأشجار، فتجذرت في أعماقها وسارت في عروقها كجريان الدم في جسم الإنسان. وعلاوة على تعرض الفيتناميين بشكلٍ مباشر إلى هذه السموم، فقد تعرض الجنود الأمريكيين أنفسهم لهذا الملوث المسرطن، وبخاصة ممن تعاملوا مع المبيد بشكلٍ أو بآخر، سواء الذين كانوا في ساحات القتال أو غير ذلك، فكل من قام بعملية الرش أو النقل أو الشحن أو فتح البراميل التي تحتوي على المبيد أو التخلص منها بعد الانتهاء من استعمالها قد تلوث بهذا السم، حتى أن التقارير تفيد بأن أكثر من مليون جندي أمريكي أصابه هذا التلوث المستدام.

والتقارير العلمية والتحقيقات الإعلامية التي تغطي هذا الكارثة لا تقف أبداً وأقلام رجال الفكر والباحثين لا تجف عن الكتابة عنها منذ أن اشتعلت هذه الحرب الضروس، وأخيراً وليس آخراً هناك التحقيق المنشور في مجلة الشبيجل الألمانية في 21 مايو من العام الجاري، حيث قدَّم هذا التحقيق الميداني استمرار معاناة الشعب الفيتنامي جيلاً بعد جيل من هذا الملوث الخطير، وذكر أمثلة كثيرة على أطفال ولدوا مشوهين ومعوقين إعاقات مختلفة نتيجة لتعرض آبائهم لهذا المبيد، وكأن رب العالمين أنجاهم بأبدانهم وأرواحهم ليذكرنا بهذه المأساة البشرية الخالدة، فكل واحد من هؤلاء الأطفال المعوقين له قصة حية يحكيها الآن بعد ستين عاماً عندما وضعت الحرب أوزارها، ليكونوا جميعاً مسرحاً حياً يتحرك أمام الجمهور، وشاهداً بارزاً على هذه الكارثة، فيخلد ذكراها من جديد للناس، فلعلنا نتعظ بها، ونتعلم منها، وتكون لنا دروساً حية نستفيد منها في أهمية حماية بيئتنا من التلوث.

فهل بعد هذا المثال يشك أي إنسان بأن بعض الكوارث البيئية ستكون مخلدة أبد الدهر؟


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق