الاثنين، 3 يونيو 2019

التَابُوت النووي


لم تحظ زيارة الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش هذه المرَّة خارج مقره في نيويورك بتغطيةٍ إعلامية واسعة، وبخاصة من الإعلام الشرقي والعربي، فهذه الزيارة كان هدفها بيئياً بحتاً، وبالتحديد لمشاهدة تداعيات التغير المناخي عن قرب، وكانت لدول هامشية ضعيفة وفقيرة ليس لها وجوداً فعلياً قوياً ومؤثراً على مجريات الأمور في الساحة الدولية.

فقد غادر نيويورك متجهاً إلى الدول الجزرية الموجودة في المحيط الهادئ مثل جزر المارشال وجمهورية جزر فيجي للمشاركة في منتدى جزر المحيط الهادئ لعام 2019 في 15 مايو في فيجي لمناقشة عدة قضايا من أبرزها وأهمها التحدي المصيري والوجودي الذي يواجه هذه الجزر من تداعيات التغير المناخي العصيبة، وبخاصة ارتفاع درجة حرارة الأرض وما ينجم عنه من ارتفاعٍ مشهود في مستوى سطح البحر وتهديده المحتوم في غرق وانقراض هذه الجزر المنخفضة من على سطح الأرض كلياً والقضاء على هذه الشعوب المستضعفة التي تعيش فيها.

وفي الوقت نفسه هناك قضية أخرى طُرحت أثناء الزيارة ولكن بشكلٍ هامشي غير رسمي وذلك من خلال كلمةٍ ألقاها الأمين العام للأمم المتحدة لطلاب جامعة جنوب المحيط الهادئ حيث أبدى قلقه، كما يفعل عادة كل أمين عام عندما يواجه بقضية حساسة وشائكة، من المخلفات النووية التي تركتها وهجرتها مئات التجارب النووية التي أُجريت على أرض هذه الدول غصباً عنهم، وفي الكثير من الأحيان بدون علمهم، وأشار من خلال الكلمة إلى وجود "التابوت" النووي المشع على أرض جزيرة واحدة من آلاف الجزر المترامية في المنطقة التابعة لجزر المارشال، وقصد بذلك المبنى الضخم المصنوع من الخرسانة المسلحة على شكل قبة كبيرة جداً وكأنه ملعب لكرة القدم قطره أكبر من 115 متراً ويُطلق عليه سكان الجزيرة بـ "القَبْر"، والذي أنشأته الولايات المتحدة الأمريكية وتركت  مخلفاتها الذرية المشعة في حفرٍ عميقة تحت هذه القبة منذ السبعينيات من القرن المنصرم، ثم انصرفت عنها وكأن شيئاً لم يكن دون أدنى اعتبار، أو تحمل أية مسؤولية لصحة شعوب الجزر وأمنهم البيئي.

وهذه القضية العابرة الثانوية بالنسبة لأمين عام الأمم المتحدة والتي تهدد شعوب هذه الجزر الفقيرة، بل وسكان العالم أجمع، هي التي أُريد أن أركز عليها هنا وأنبه إلى خطورتها علينا جميعاً، وأُشير كذلك من خلال هذه القضية إلى ارتكاب الدول الصناعية المتقدمة الصناعية الغنية الكبرى، مثل الولايات المتحدة الأمريكية لجرائم ضد الأمن البيئي وأمن الشعوب دون أن تتمكن الأمم المتحدة أو غيرها من محاسبتها على هذه الأعمال المشينة وغير الأخلاقية.

فكما يعلم الجميع فإن التسابق الشديد للدول الصناعية الكبرى في إنتاج أول قنبلة للدمار الشامل، أو قنبلة نووية ذي قدرة هائلة على التدمير، هي التي جعلت دول العالم في أن تُسرع من إجرائها للتجارب النووية، سواء في البحر، أو في أعماق الأرض، أو في أعالي السماء في الغلاف الجوي، ولم تبال أثناء قيامها بالتجارب على هذه الأسلحة الفتاكة بأي شيءٍ آخر، سواء أكانت صحة شعوبها وشعوب الدول الأخرى، أو بيئاتها في البر والبحر والجو، فاستباحت حرمات الإنسان وبيئته وتعدت بدرجةٍ فاضحة على كل مكوناتها الحية وغير الحية، فجاءت أول تجربة نووية في جزر المارشال، وبالتحديد في الأول من مارس عام 1954، وبالضبط الساعة 6:45 صباحاً حيث انفلقت وانفتحت السماء الزرقاء الصافية إلى شقين عظيمين من النور كلون الدم الفاقع، ثم انكشفت السحب المعروفة على شكل المشرومة على ارتفاع قرابة ستة كيلومترات، والتي عادة ما تظهر عند انفجار القنابل النووية، ثم بعد سويعات تغطت الجزيرة برمتها بالغبار والرماد الأبيض المشع، حيث نزل على الناس كنزول الثلج من أعالي السماء، ولعب فيها أطفال الحي ولم يعرف أحد بأنها مواد مشعة، حسب ما جاء في التحقيق الذي نشرته الواشنطن بوست في 22 مايو من العام الجاري تحت عنوان: "الولايات المتحدة الأمريكية وضعت المخلفات تحت قبة في الجزر الهادئ، والآن بدأت تتلف وتتكسر". فهذا مثال واحد على أكثر من 67 تجربة نووية قامت بها أمريكا في هذه الجزر المغلوب على أمرها، إضافة إلى الدول الصناعية الأخرى التي أجرت أيضاً تجارب مشابهة في الأربعينيات والخمسينيات من القرن المنصرم حتى أن العدد الإجمالي للتفجيرات النووية يقدر بـ 2624.

ومن أجل التعامل مع هذه المخلفات المشعة التي سممت البر والبحر والجو وأصبحت جزءاً من مكونات البيئة الحية وغير الحية ووصلت فعلياً إلى أعمق نقطة تحت سطح المحيط الهادئ على بعد أكثر من عشرة كيلومترات، قامت الولايات المتحدة الأمريكية في 1977، أي بعد أن تغلغل الإشعاع وتجذر في كل بيئتنا وأجسادنا، بنقل نحو 70 ألف متر مكعب من التربة المشعة في هذه الجزر إلى جزيرة أخرى، وأنشأت مبنى من الخرسانة المسلحة على هيئة قبة عظيمة فرمت فيها مخلفات الدمار الشامل، حيث بدأ المبنى بالتلف والتحلل والتشقق مع الوقت رويداً رويداً، وحتماً ستترشح منه الإشعاعات القاتلة والمسرطنة فتلوث الهواء الجوي وتهدد الأمن الصحي للبشرية جمعاء. وجدير بالذكر بأن أحد علماء وزارة الطاقة الأمريكية أعلن عن اكتشاف نسب مرتفعة من الإشعاع في المحار بالقرب من هذا التابوت أو مقبرة المخلفات المشعة، علماً بأن المحار يعد غذاءً رئيساً لسكان الجزيرة ويُصدَّر إلى دول أخرى، حيث نقل الخبر صحيفة اللوس أنجلوس تايمس في 28 مايو من العام الجاري، وهذا الاكتشاف يشير إلى ترشح الإشعاع من القبر وتلوث وتسمم السلسلة الغذائية البحرية بالإشعاع نتيجة لتفجيرات الولايات المتحدة الأمريكية النووية.

كذلك أكدت العديد من الدراسات أن من ضمن الملوثات المشعة التي نزلت على الأرض، وبخاصة في منطقة التفجيرات النووية هي عنصر البلوتونيوم(239) الذي يعد من أخطر المواد المشعة وأشدها فتكاً وتدميراً بجسم الإنسان، وتأتي القوة التدميرية الشاملة والمستدامة لهذا العنصر في أنه يستمر مشعاً(نصف حياته الإشعاعية) أكثر من 24 ألف عام.

ولذلك بعد أن تعرَّف الأمين العام للأمم المتحدة على الوضع البيئي والصحي الكارثي على الكرة الأرضية جمعاء بسبب إجراء التفجيرات النووية والهيدروجينية التي قامت بها الدول الصناعية المتقدمة الكبرى، وتأكد بنفسه على تهديد تبعات إجراء هذه التجارب على السلم والأمن البيئي والبشري، أليس من الأولى منه أن يضع هذه القضية الأمنية في جدول أعمال مجلس الأمن؟

فهل سيفعل ذلك؟  


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق