الأحد، 16 يونيو 2019

أمريكا تُغير تصنيف مُخلفاتها المشعة لتوفير المال!



في البداية لم أُصدق الخبر الذي قرأته في عدة صحف في الولايات المتحدة الأمريكية وفي بريطانيا وفي اليابان، حيث أجمعتْ كل هذه الصحف من مختلف دول العالم على نقل وتحليل هذا الخبر المزعج والمقلق، لما له من أهمية بالغة تنعكس على كل سكان العالم وعلى كوكبنا برمته.

ويتلخص الخبر المنشور في الخامس من يونيو من العام الجاري بأن وزارة الطاقة الأمريكية تُعيد تصنيف المخلفات النووية المتراكمة في أراضيها، أو المخزنة في صهاريج تحت الأرض أكلها السوس والصدأ، من مخلفات خطرة وشديدة الإشعاع إلى مخلفات أقل خطورة، وذلك بهدف الإسراع في عملية التنظيف والمعالجة وتوفير التكاليف الإدارية والمالية، حيث إن وزارة الطاقة أكدت بأنها ستوفر قرابة أربعين مليار دولار نتيجة لإعادة تصنيف مخلفاتها الإشعاعية.

وهذا الإرث الثقيل والمرعب من المخلفات التي أُطلق عليها مخلفات الدمار الشامل، أو القنابل النووية الموقوتة مخزنة الآن في ثلاث ولايات رئيسة ويبلغ حجمها نحو مائة مليون جالون من المخلفات المشعة، وهذه المخلفات التي أنتجتها يد أمريكا نفسها كانت إما تُصنَّع فيها الأسلحة الذرية بمختلف أنواعها كالقنابل النووية والصواريخ ذات الرؤوس النووية أيام الحرب العالمية الثانية والحرب الباردة، أو إنها مواقع لمحطات توليد الكهرباء بالطاقة الذرية، وهي مدينة هانفورد بولاية واشنطن والتي تُعتبر الأخطر في أمريكا والأشد تهديداً للبشر في أمريكا وخارجها (Hanford Nuclear Reservation)، والثاني في ولاية إيداهو(Idaho National Laboratory)، والثالث في ولاية سَاوث كارولاينا(Savannah River Plant).

وفي الحقيقة فإن هذه الخطوة غير المسؤولة تأتي اعترافاً ضمنياً على عجز وفشل الولايات المتحدة الأمريكية الذريع والمستمر، بالرغم من تطورها العلمي والتقني، منذ أكثر من ثمانين عاماً في إدارة مخلفاتها الذرية المشعة التي تتوارثها الأجيال الأمريكية جيلاً بعد جيل دون حلٍ جذري مستدام، وهذا الفشل يقع في كافة الجوانب، سواء الجانب السياسي، أو الإداري، أو الفني، أو الاقتصادي. 

أما بالنسبة للجانب السياسي فمازالت الحكومة الأمريكية والكونجرس منذ عقود طويلة من الزمن لم تتمكنا من الوصول إلى سياسة واستراتيجية واحدة وتوافقية للتعامل مع المخلفات المشعة، ففي كل دورة للكونجرس رأي وسياسة مخالفة للدورة التي سبقتها، وهكذا الحال حتى يومنا هذا. فقد بدأت معارك رجال السياسة والتشريع منذ الثمانينيات من القرن المنصرم في البحث عن مقبرة دائمة لمخلفات أمريكا النووية المشعة بحيث تكون هي المثوى الأخير للمخلفات، حيث وجه الكونجرس في عام 1987 لدراسة جبال يوكا التي تقع بالقرب من مدينة لاس فيجاس بولاية نيفادا كموقع وحيد للمخلفات، ثم بعد أكثر من عقد من الدراسة والبحث وافق الكونجرس في عام 2002 على هذا الموقع، ولكن مع تغير الوجهة السياسية لأمريكا عندما انتخب أوباما رئيساً فقد تم رفض المشروع كلياً في عام 2010 بسبب معارضة زميل أوباما وزعيم الأغلبية في الكونجرس السيناتور هاري ريد عن ولاية نيفادا. والآن يريد ترمب إحياء القضية من جديد بتخصيص 120 مليون دولار للبدء في الإجراءات، حيث صرح وزير الطاقة في العشرين من يونيو 2017 بأنه ينوي فتح جبال يوكا لاستقبال أكثر من 77 ألف طن من أعمدة الوقود النووي المستنفد والمخزن في أكثر من 75 موقعاً في ولايات أمريكا، علماً بأن حاكم نيفادا رفض رفضاً قاطعاً نقل مخلفات أمريكا إلى ولايته، وسنرى من ينتصر في النهاية.

أما الفشل الاقتصادي فيتمثل في النفقات الهائلة التي تصرفها أمريكا على إدارة مخلفاتها المشعة، فعلى سبيل المثال، تُنفق أمريكا منذ منتصف الثمانينيات من القرن المنصرم نحو بليونين دولار سنوياً فقط لإدارة المخلفات النووية المخزنة في موقع واحد وهو مدينة هانفورد بولاية واشنطن، كما أنها أنفقت حتى الآن أكثر من 164 بليون دولار على مواقع المخلفات النووية بشكلٍ عام، علماً بأن الكلفة التقديرية لتخزين المخلفات النووية في مقبرة جبال يوكا لن تقل عن مائة بليون دولار، حسب تقارير وزارة الطاقة.

أما الفشل الفني والتقني فقد تمثل في عجز علماء أمريكا إلى الوصول إلى تقنية مستدامة صحياً وبيئياً لمعالجة الأنواع المختلفة من المخلفات النووية المشعة، فكل ما توصلت إليه عقول علماء أمريكا هو التخزين طويل الأمد لهذه المخلفات تحت الأرض، وأثبتت الحوادث التي وقعت في البعض من هذه المواقع بأنها غير آمنة وتهدد بوقوع تسربٍ إشعاعي لا يؤثر على أمريكا فحسب وإنما على كوكب الأرض برمته.

فهذه الحالة العصيبة والكارثية التي تعيشها أمريكا منذ منتصف القرن الماضي في عدم قدرتها على التعامل مع مخلفاتها المشعة، جعلتها تتهرب عن مسؤولياتها تجاه مجتمعها وتجاه العالم أجمع، وتتحايل على علاجها، فتحاول بكل الوسائل والطرق خفض التكاليف المالية والإدارية الباهظة الناجمة عن إدارة هذه المخلفات، إضافة إلى إخفاء عجزها وقلة حيلتها في إيجاد الحل الفني المستدام من خلال إعادة تصنيف مخلفاتها وتغيير هويتها وجعلها أقل خطورة ومنخفضة التلوث الإشعاعي.

وهذا التصنيف والتعريف الجديد للمخلفات المشعة سيسمح لها باستخدام تقنيات رخيصة ومتوافرة في التعامل مع المخلفات، إضافة إلى أنها بهذا التصنيف تستطيع أن تدفن مخلفاتها عل أعماقٍ بسيطة غير مكلفة مالياً وغير معقدة فنياً بدلاً من كيلومترات تحت سطح الأرض.

وجدير بالذكر بأن هذه الأزمة الطاحنة المستمرة لعقود طويلة من الزمن لا تعاني منها الولايات المتحدة الأمريكية فحسب، وإنما كل الدول النووية، سواء التي تستخدم الطاقة النووية لأغراض سلمية أو عسكرية، وجميعها تخزن "مخلفات الدمار الشامل" التي تهدد صحة الإنسان والأمن والسلم الدوليين، وكلي أمل أن تحظى هذه القضية الكبرى باهتمام دول العالم فتدعو إلى مناقشتها في أحد اجتماعات مجلس الأمن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق