الأربعاء، 28 سبتمبر 2022

مُضْغة القلب في خطر

قال سبحانه وتعالى في سورة التين: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ "، وقال المفسرون بأن هذه الآية تعني بأن الإنسان تام الخَلْقْ، ومتناسب الأعضاء، فخلق الله بني آدم في أعدل قامة، وأجمل صورة، وأحسن هيئة، وكل هذا في تقديري يتضمن الشكل الخارجي للإنسان ومظهره العام، كما يتضمن في الوقت نفسه كمال خلق أعضاء الجسم الداخلية التي لا نراها مباشرة أمامنا.

وهذه الأعضاء تعمل معاً بشكلٍ متكامل، بحيث يعتمد كل عضو بدرجةٍ أو بأخرى على الأعضاء الثانية في أداء مهمته ووظيفته، ولكن بالرغم من ذلك فإن هناك اختلافاً وتفاوتاً في مكانة وأهمية كل عضو، والدور الذي يلعبه في استدامة عطاء الجسد وحيويته وإنتاجه، فهناك عضو ميَّزه رب العالمين على سائر الأعضاء، وفضله عليهم لأهميته البالغة بالنسبة للجسد كله، حيث قال الرسول عليه الصلاة والسلام: "ألا وإن في الجسد مُضْغة أذا صلحت صلح الجسد كله، وإذا فسدت فسد الجسد كله، ألا وهي القلب".

ولكن مضغة القلب هذه تقع منذ عقود تحت ضغوط شديدة تؤثر على استدامة قوتها وعطائها، وتعاني من مؤثرات خارجية كثيرة تُضعف قيامها لوظيفتها، وتشل مع الوقت حيويتها، فتُوقف نشاطها ونبضها كلياً، فيهلك الجسد كله.

وقد اكتشف العلماء منذ سنوات بأن مضغة القلب مهددة في أمنها الصحي نتيجة للملوثات التي لا تُعد ولا تحصي والتي نسمح لها بأيدينا طواعية من مصادر كثيرة من الانبعاث إلى مكونات البيئة من ماء، وهواء، وتربة. ومن هذه المصادر بشكلٍ خاص مئات الآلاف من المصانع المتحركة التي تجوب شوارعنا من شتى أنواع المركبات ليلاً نهاراً وعلى مدار الساعة فتُطلق خليطاً معقداً وساماً ومسرطناً من الملوثات، إضافة إلى محطات توليد الكهرباء والمصانع بمختلف أحجامها وأنواعها.

وهذا الخليط من شتى أنواع الملوثات الكيميائية الذي ينبعث من هذه المصادر يختلف في حدة وقوة تأثيره على عناصر البيئة من جهة، وعلى صحة الإنسان وسلامة أعضاء الجسد الداخلية من جهة أخرى. ونظراً لأهمية القلب لاستدامة حياة الإنسان، فقد اتجهت أنظار العلماء والأطباء وتركزت بحوثهم على مدى تأثر القلب عند تعرضه لهذه الملوثات من عدة مناحي، منها من ناحية أداء القلب لوظيفته، ومنها تغير دقات القلب زيادة أو نقصاناً، وأخيراً الأمراض المتعلقة بالقلب والناجمة عن هذه الملوثات.

وهناك عدة ملوثات تتحمل مسؤولية إفساد صحة القلب، منها غاز الأوزون الذي يتكون من انبعاث الملوثات من السيارات، وبالتحديد أكاسيد النيتروجين والهيدروكربونات والتي عند وجود أشعة الشمس الحارة تتحول إلى ملوثات مؤكسدة خطرة على رأسها غاز الأوزون. ومن الملوثات أيضاً الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي قطرها يساوي أو يقل عن 2.5 ميكروميتر، والتي تنبعث أساساً من عوادم السيارات، وبخاصة التي تعمل بوقود الديزل. وهذه الجسيمات الدقيقة تكمن خطورتها وتهديدها للصحة العامة، وبالتحديد القلب والجهاز التنفسي في أنها متناهية في الصغر ولها القدرة على غزو ممرات الجهاز التنفسي وصولاً إلى العمق وهو الرئتين، ومنها تتمكن هذه الجسيمات من الانتقال إلى الدورة الدموية والوصول إلى كل خلية من خلايا جسم الإنسان، بما في ذلك القلب.

وهناك دراسات كثيرة وثَّقت وأثبتت هذه الحقيقة حتى تحولت إلى إجماع في المجتمع الطبي، منها الدراسة الفريدة، وتُعد الأولى من نوعها وهي تحت عنوان: "التأثيرات الحادة للجسيمات الدقيقة على نبضات القلب عند المراهقين"، والمنشورة في "مجلة جمعية القلب الأمريكية"( Journal of the American Heart Association)، في 14 سبتمبر 2022.

فهذه الدراسة التي هدفت إلى بيان العلاقة بين التعرض للدخان وتغير نبضات القلب، شارك فيها 322 من المراهقين الأصحاء الذين لا يعانون من أية مشكلات صحية لها علاقة بالقلب، ومعدل أعمارهم 17 عاماً من ولاية بنسلفانيا الأمريكية، حيث تم تزويدهم بجهازين محمولين لمدة 24 ساعة. أما الجهاز الأول فيقيس تركيز الدخان الذي يتعرض له المراهق بشكلٍ مستمر طوال يوم واحد، والثاني جهاز هولتر إي سي جي(Holter ECG) الذي يراقب ويقيس التغير في نبضات القلب، حيث قام الباحثون بدراسة نوعين من عدم انتظام دقات القلب، وهما التقلصات الأذينية المبكرة(premature atrial contractions)، حيث يكون النبض من الجزء العلوي من القلب، والثاني فهو انقباضات البطين السابق لأوانه أو المبكرة(Premature ventricular contractions)، ويقع هذا النوع عندما يحدث نبض القلب من الجزء السفلي من القلب.

وكانت الاستنتاجات مقلقة بدرجة كبيرة حيث إنه خلال يوم واحد تعرض 245 أو 79% من المراهقين الذين شاركوا في الدراسة لما لا يقل عن مرة واحدة من حالة دقات القلب غير المنتظمة، والتي يُطلق عليها طبياً(arrhythmias)، وكلما زاد تركيز الدخان في الهواء الجوي ارتفعت عدد مرات التعرض لحالة نبض القلب غير المنتظم. كما توصلت الدراسة إلى استنتاج هام هو أنه حتى عندما تكون نسبة الجسيمات الدقيقة في الهواء منخفضة جداً وأقل من المواصفات المتعلقة بجودة الهواء، مثل معدل 17 ميكروجراماً للجسيمات الدقيقة لكل متر مكعب في اليوم، فإن المراهقين مازالوا يعانون من هذه الحالة الصحية الخطيرة التي تهدد وظيفة القلب، وتؤدي إلى مضاعفات ومشكلات حادة في القلب والإصابة بأمراض قلبية مختلفة، مثل مرض الرجفان الأذيني(atrial fibrillation)، وتخثر الدم، ثم السكتة الدماغية والموت المبكر والمفاجئ. كذلك أفادت الدراسة بأن تأثير الدخان على القلب ينكشف سريعاً وبعد مرور نصف ساعة إلى ساعتين فقط من التعرض له، حيث تتغير نبضات القلب وتصبح غير منتظمة.

فهذه الدراسة، وأبحاث كثيرة أخرى توصلت إلى استنتاجٍٍ مخيف يجب أن نقف عنده ملياً، ونفكر في تداعياته على المجتمع، وهو أن المراهقين والشباب اليوم مهددين في أمنهم الصحي فهم يصابون بأمراض القلب التي كانت في العقود الماضية تُعد من أمراض القلب التي يصاب بها كبار السن والشيوخ الذين بلغوا من الكبر عِتيا، واشتعل رأسهم شيبا، وذلك لعدة أسباب منها تلوث الهواء، وبالتحديد وجود الدخان والجسيمات الدقيقة، ومنها تدخين السجائر والشيشة، ومنها أخيراً شرب الخمر ونمط الحياة غير الصحي، وهذه الظاهرة المرضية العصرية تعاني منها مجتمعات كثيرة من ضمنها البحرين، مما يستدعي اتخاذ إجراءات سريعة لمنع تفاقمها بدرجة أشد وأعمق.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق