الأربعاء، 5 أكتوبر 2022

مناطق ميتة في مياه الخليج؟

مناطق صحراوية قاحلة لا حياة فيها ولا روح لها تم اكتشافها في مياه الخليج العربي، وبالتحديد في المواقع العميقة في وسط الخليج، حيث قُدرت مساحتها بآلاف الكيلومترات المربعة.

 

وهذه المناطق الجرداء المقفرة التي تُغطي مساحات شاسعة من الخليج تتصف بأنها خالية من الأكسجين الذائب في الماء، أو أنها منخفضة تركيز الأكسجين، بحيث إن الكائنات الحية لا تستطيع أن تعيش في هذه الأجواء الخانقة التي لا تُعين ولا تساعد على الحياة. فانخفاض تركيز الأكسجين الذائب في الماء كانخفاض تركيز الأكسجين في الهواء الجوي، وبخاصة عندما يصْعَد الإنسان ويعرج في السماء، أو يتسلق الجبال الشاهقة، والذي يؤدي إلى ضيق صدر واختناق الإنسان والكائنات الحية الأخرى ثم موتها.

فقد نَشر المركز العربي للمناخ والعلوم البيئية(Arabian Center for Climate and Environmental Sciences)في جامعة نيويورك بإمارة أبوظبي بحثاً في السابع من سبتمبر 2022 في مجلة(Frontiers in Marine Science) تحت عنوان: "اتساع وتفاقم انخفاض تركيز الأكسجين في الخليج العربي وأسبابه في الفترة من 1982 إلى 2010". فقد كشفت هذه الدراسة النقاب عن هذه الظاهرة البحرية المهددة لاستدامة حياة الكائنات البحرية، والمتمثلة في المناطق منخفضة تركيز الأكسجين الذائب في الماء، حيث خلصت إلى عدة استنتاجات، منها ما يلي:

أولاً: هناك مواقع في مياه الخليج العربي تعاني من انخفاضٍ شديد في مستوى وتركيز الأكسجين الذائب في الماء، وثانياً تفاقم هذه المشكلة مع الوقت وازدياد مساحة هذه المناطق مع الزمن خلال الثلاثين عاماً الماضية، حيث أفادت الدراسة بأن تركيز الأكسجين ينخفض بنسبة 1% كل عشر سنوات، كما أن زيادة المساحة الجرداء المقفرة تُقدر من عشرين ألف كيلومتر مربع في عام 1980 إلى ثلاثين ألف في عام 2000، أي أن المنطقة الميتة تتوسع وتزيد بنسبة 3818 كيلومتراً مربعاً كل 10 سنوات، وثالثاً وجود مواقع في قاع الخليج خالية تماماً من الأكسجين في بعض المواسم، وبالتحديد في الصيف ومطلع فصل الخريف، فتُصاب بحالة مرضية بحرية يُطلق عليها "الهيبوكسيا"(hypoxia)، وهذه المناطق تتركز في وسط الخليج في المياه العميقة.

وهذه الدراسة التي أُجريت على مياه الخليج العربي تُضيف مثالاً حياً آخر على واقعية هذا المرض الذي تتعرض له بحار، وبحيرات، وأنهار العالم أجمع من شرقه إلى غربه، ومن شماله إلى جنوبه، فنادراً ما تشاهد أو تسمع عن مسطحٍ مائي قد نجا من السقوط في هذا المرض البحري. فقد بدأ العلماء الميدانين بتقصي ومراقبة هذه المناطق الميتة منذ مطلع القرن المنصرم، فعلى سبيل المثال، سجل العلماء قرابة 49 صحراء بحرية قاحلة، ثم ازدادت هذه المقابر إلى 149 في عام 2004، وإلى 200 في 2015، واستمرت هذه الزيادة في عام 2018 حيث بلغت 405، وأخيراً تُقدر هذه المقابر بأكثر من 500 مقبرة جماعية بحرية.

وهناك سببان لظهور هذه المناطق البحرية الميتة وارتفاع أعدادها سنوياً وبشكلٍ مطرد. أما السبب الأول فيرجع إلى أسباب تقليدية قديمة معروفة منذ أكثر من قرن. فعلى سبيل المثال، هناك مياه المجاري المعالجة أو غير المعالجة التي تصرف في المناطق الساحلية بأحجام كبيرة جداً حتى يومنا هذا، حيث تخرج مظاهرات واحتجاجات في بريطانيا بسبب صرف مياه المجاري الخام إلى البحر. كذلك هناك مياه الصرف الزراعي المحملة بالمغذيات والتي تجد مصيرها في نهاية المطاف إلى المسطحات المائية، إضافة إلى مياه المسالخ. كذلك تُصرف في المسطحات المائية مياه المصانع، وبالتحديد المياه الحارة الناجمة عن العمليات الصناعية، وبخاصة عمليات تحلية مياه البحر. فكل هذه المصادر تحمل في بطنها مواد مغذية عضوية وأخرى عناصر غذائية مثل الفوسفور والنيتروجين، والتي تعمل كسماد ومواد تزيد من خصوبة النباتات وتحدث انفجاراً شديداً وعلى نطاق واسع في نمو الكائنات النباتية المجهرية(الفيتو بلانكتون) والنباتات الأخرى الموجودة في البحر بدرجة طفرية كبيرة وعلى مساحات واسعة لا يمكن التحكم فيها، وتؤدي إلى ظهور المد الأخضر، أو الأحمر، أو البني. وهذه الغابات الكثيفة من النباتات البحرية تمنع نفاذ الضوء إلى أعماق البحر فتموت هذه النباتات وتترسب إلى القاع فتقوم البكتيريا الهوائية واللاهوائية بتحليل هذه النباتات واستهلاك الأكسجين الموجود في الماء حتى ينفد كلياً فتتحول المنطقة إلى صحراء ومقبرة لكل من يعيش فيها، وفي بعض الحالات الحادة تتحول إلى مستنقع آسن تنبعث عنها الملوثات الكريهة الرائحة. كذلك من المصادر التي من صُنع أيدينا هي عمليات حفر ودفن البحر، إضافة إلى عمليات التنقيب عن واستخراج النفط والغاز الطبيعي.

وأما السبب الثاني المستجد منذ نحو عقدين من الزمن فهو التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، والتي بدورها ترفع درجة حرارة البحر، وتعمل على خفض نسبة الأكسجين الذائب في الماء.

فكل هذه الأسباب التي من صنع أيدينا، إضافة إلى حرارة مياه البحر الطبيعية في أشهر الصيف وبداية موسم الخريف تعمل معاً بشكلٍ مجموعي وتراكمي على انكشاف هذه الظاهرة القديمة المتجددة، والتي أخذت في التفاقم في السنوات القليلة الماضية، وتحولت إلى وباء عام يصيب المسطحات المائية وينتشر في شتى أرجاء العالم.

ولذلك اجتمع العلماء من دول العالم ليرفعوا حالة الإنذار القصوى حول الأمراض والأسقام المزمنة التي باتت تصيب البحار والمحيطات، وأصبحت لها تداعيات كثيرة تؤثر بشكلٍ مباشر على المخزون السمكي، وتهدد الأمن الغذائي لدول العالم ومصدر رزق الملايين من البشر الذين يعيشون على خيرات البحر الحية بجميع أنواعها وأحجامها. ومن هذه الاجتماعات التي تطرقت بشكلٍ مباشر إلى أزمة نقص الأكسجين وشحه في مياه البحار هو "مؤتمر إزالة الأكسجين من المحيطات" (Ocean Deoxygenation)، والذي عُقد في الفترة من الثاني إلى السابع من سبتمبر 2018 في مدينة كيل(Kiel) الألمانية. وفي هذا الاجتماع الذي شارك فيه 300 من أخصائي علماء البحار في العالم من 30 دولة، نشروا "إعلان كيل"، حيث تكون الإعلان من 8 نقاط رئيسة تحدد معالم هذا الوباء الدولي، وكيفية علاجه، ثم سبل وإجراءات التخلص منه كلياً.

ونحن في الخليج علينا أن ننتبه كثيراً إلى هذا الوباء الذي وصل إلينا وبدأ يتفشى في معظم أعضاء وشرايين جسم الخليج العربي، فالظروف الطبيعية الفطرية لمياه الخليج والضغوط الطبيعية الموجودة فيها من ضحالة العمق، والمساحة الضيقة وشبه المغلقة، وارتفاع حرارة المياه والملوحة، إضافة إلى الانخفاض الطبيعي في الأكسجين الذائب في الماء، كل ذلك من المفروض أن يجعلنا أكثر حذراً ويقظة بهذه الأزمة، ومن المفروض أن نخفض أو نمنع كلياً من المصادر التي تحت أيدينا وتهدد سلامة بحرنا والحياة الفطرية فيها، حتى نؤمن الغذاء الفطري الذاتي لشعوب المنطقة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق