الخميس، 11 أغسطس 2022

ماذا حدث للصحة العقلية للشعب الأمريكي؟


من خلال متابعاتي اليومية لوسائل الإعلامية الأمريكية منذ سنوات، وبالتحديد الصحف والمجلات القومية واسعة الانتشار في المجتمع الأمريكي، وجدتُ أمراً غريباً بعض الشيء، فقد امتلأتْ هذه الصحف والمجلات وتشبعت بمقالات وتحقيقات ودراسات متعلقة بكافة جوانب الصحة العقلية، أو الأمراض العقلية، وركزت على تفشي ظاهرة الإصابة بأعراض ومؤشرات تدهور الصحة العقلية والذهنية والنفسية للشعب الأمريكي.

 

ولا شك بأن أية قضية تصل إلى وسائل الإعلام الجماهيرية فتقوم بتغطيتها وتناولها وسبر غورها، فهذا يؤكد بأن هذه القضية حيوية وخطيرة تمس واقع المجتمع، كما تشير إلى أنها ظاهرة عامة قد تفشت منذ سنوات في كافة شرايين الشعب، وفاحت رائحتها وانتشرت وتغلغلت في أعماق المجتمع حتى قامت وسائل الإعلام بالكتابة عنها والتعرف على دقائقها وتفصيلاتها.

 

فماذا حدث لعقل الشعب الأمريكي، وما الذي طرأ على الصحة العقلية والنفسية لسكان أمريكا حتى تحظى باهتمام ورعاية وسائل الإعلام الشعبية؟

 

فهذا الاهتمام للصحة العقلية للشعب الأمريكي من وسائل الإعلام لم يأت من باب الترف الفكري، أو من باب تقديم المعلومات الثقافية العامة وملء صفحات الجرائد والمجلات، وإنما فرض هذا الاهتمام نفسه لأنها قضية واقعية تهدد حياة شعب برمته، ولأنها قضية تجذرت وتفاقمت تداعياتها منذ عشرات السنين في أعماق الشعب بأكمله من أطفاله، وشبابه، وشيوخه، فالجميع يعاني من إحدى صور ومظاهر هذا الخلل في الصحة العقلية، سواء من الناحية العاطفية، أو السلوكية، أو الاجتماعية، أو من شدة القلق والاكتئاب، والميل نحو الانتحار.

 

وهناك عدة مؤشرات سطحية واضحة تثبت تأصل هذه القضية الصحية العقلية في المجتمع الأمريكي، علاوة على الإحصاءات والتقارير الحكومية الرسمية والدراسات والأبحاث الميدانية المستقلة.

 

فأول هذه المؤشرات هو وجود الخط الساخن، أو خط الحياة الذي يعمل على مدار الساعة للحالات المتعلقة بأزمة الصحة العقلية على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، وهذا الخط تطور من حيث مهماته والحالات التي يستقبلها ويعالجها. فكانت الانطلاقة الأولى لهذا الخط الهاتفي الساخن في عام 2005 حيث كان مخصصاً لحالة عقلية ونفسية واحدة فقط هي التفكير والميل إلى الانتحار، ولكن مع تفاقم أزمة الصحة العقلية عند الشعب الأمريكي، وزيادة مد أعراض الأمراض العقلية التي يعاني منها كل سنة، وقع الرئيس السابق دونالد ترامب في أكتوبر 2020 على قانون لإنشاء خط ساخن عام على غرار الخط الساخن لحالات الطوارئ العامة وهو 911، بحيث تتجاوز حدود هذا الخط الانتحار فقط، لتشمل الحالات الطارئة لكل صور ومظاهر وأعراض الأمراض العقلية والمتعلقة بالصحة العقلية، وهذا الخط سهل جداً يمكن الوصول إليه بسرعة ويسر شديدين ومكون من ثلاثة أرقام هي 988. ولكن هذا الخط لم ير النور، ولم يُفعَّل استخدامه إلا في عهد بايدن، حيث تم تدشينه في 16 يوليو 2022 وتخصيص ميزانية كبيرة لتشغيله بلغت 432 مليون دولار. فتدشين هذا الخط الساخن وتحديد هذه الميزانية الضخمة يثبت في حد ذاته وجود أزمة متفاقمة ومتجذرة منذ سنوات طويلة في قلب الشعب الأمريكي لمواجهة حالات تدهور الصحة العقلية لهذا الشعب المريض نفسياً وعقلياً.

 

وأما المؤشرات الأخرى على فساد الصحة العقلية لعموم الشعب الأمريكي فهي مستخلصة من التقارير الحكومية الرسمية والدراسات والأبحاث العلمية الميدانية، بحيث إن هناك منظمات ومؤسسات حكومية وغير حكومية تتابع وتراقب عن كثب وبمنهجية علمية موضوعية التغيرات في أنماط الصحة العقلية للشعب منذ أكثر من عشر سنوات، وتنشر تقارير دورية عن حالة الصحة العقلية للشعب الأمريكي، منها جمعية غير حكومية تهدف إلى رعاية ومواجهة أمراض الصحة العقلية هي "الصحة العقلية الأمريكية"، (Mental Health America)، حيث تنشر تقارير سنوية تحت عنوان: "حالة الصحة العقلية في أمريكا"(The State of the Mental Health in America)، وكان آخر تقرير لها هو التقرير الثامن، وعنوانه: "تقرير حالة الصحة العقلية في أمريكا 2022"، والمنشور في 19 أكتوبر 2021. كذلك هناك التقارير الدورية التي تنشرها "مراكز التحكم في المرض ومنعه"، ومنها المنشور في 31 مارس 2022 حول انتشار ظاهرة تدهور الصحة العقلية بين طلاب المدارس الثانوية، وبخاصة أثناء وباء كورونا.

 

ومن خلال اطلاعي على هذه التقارير، أُقدم لكم أهم الاستنتاجات العامة التي توصلتْ إليها حتى الآن، كما يلي:

أولاً: النمط العام للصحة العقلية هو تدهورها مع الوقت ومع كل سنة منذ عام 2012، حيث تحولت إلى حالة مزمنة ووباء صحي عام، ففي كل سنة تكون الحالة أشد وأسوأ من السنوات الأخرى، وبخاصة بعد وقوع كارثة الوباء الصحي كورونا. فقد حذَّر الجراح الأمريكي العام(Vivek H. Murthy) في التقرير المنشور في السابع من ديسمبر 2021 من استمرار وقوع الشباب في أزمة فساد صحتهم العقلية، وتفاقمها أثناء الوباء، ووصف هذه الحالة بأنها "أزمة مدمرة"، كما وصف المختصون أيضاً بأنها "الوباء الثاني". وفي أكتوبر 2021 أعلنت عدة جمعيات ومؤسسات مهنية غير حكومية حالة "الطوارئ القومية للصحة العقلية للشباب"، منها "الأكاديمية الأمريكية للأطفال"، و"الأكاديمية الأمريكية للصحة النفسية للأطفال والشباب"، و"جمعية مستشفيات الأطفال".

 

ثانياً: حسب المعلومات المنشورة في عام 2020 فهناك مواطن أمريكي من بين خمسة يعاني ويعيش مع الأعراض المختلفة المتعلقة بالصحة العقلية، أي نحو 52.9 مليون مواطن أمريكي، وهذا يمثل قرابة 20% من سكان أمريكا. وهذا المرض العقلي الذي أصاب الشعب الأمريكي يوقع خسائر اقتصادية تقدر بنحو 193 بليون دولار سنوياً.

ثالثاً: الإناث أكثر عرضة من الذكور في الوقوع في شباك تدهور الصحة العقلية، حيث كانت النسبة في عام 2020 (25.8%) مقارنة بنسبة (15.8%) للذكور، كما أن صغار السن من الشباب هم الأكثر إصابة، حيث بلغت النسبة (30.6%) لمن تتراوح أعمارهم بين 18 إلى 25، مقارنة بنسبة (25.3%) للأعمار من 26 إلى 49، ونسبة (14.5%) للذين تزيد أعمارهم عن الخمسين عاماً.

رابعاً: أما عن نسبة الانتحار كأحد مؤشرات تدهور الصحة العقلية بين الشعب الأمريكي، فقد نشر "المركز القومي للإحصائيات الصحية"( National Center for Health Statistics) و"النظام القومي للإحصائيات الحيوية"(National Vital Statistics System) في مارس 2022 تقريراً تحت عنوان "الانتحار في الولايات المتحدة في الفترة 2000 إلى 2020". وجاء فيه أن نسبة الانتحار زادت في الفترة من عام 2000 إلى 2018، ثم في عام 2018 انخفضت قليلاً من 14.2 لكل مائة ألف إلى 13.5 في عام 2020، فالزيادة العامة من 2000 إلى 2020 هي 30%. فالانتحار كان في المرتبة رقم (12) لسبب الوفيات في عام 2020  لجميع الأعمار، فكل 11 دقيقة يموت مواطن أمريكي بسبب الانتحار، علماً بأنه كان في المرتبة العاشرة في عام 2019. ولكن الانتحار هو السبب الثاني للوفيات للذين تتراوح أعمارهم بين عشر سنوات و 34، وفي المرتبة الخامسة لمن تتراوح أعمارهم من 35 إلى 54. وأما بالنسبة للانتحار بين صفوف الجيش الأمريكي فهو في حالة وباء مستمرة منذ سنوات، ولمزيد من المعلومات يمكن الرجوع إلى مقالي المنشور في أخبار الخليج في 12 يونيو 2022 تحت عنوان: "ظاهرة الانتحار بين الجنود الأمريكيين".

 

فالصحة العقلية التي هي جزء من صحة الإنسان العامة، تُعد من المشكلات الصحية المعقدة جداً والمتشابكة مع عوامل اجتماعية، واقتصادية، وبيئية، فهناك الكثير من العوامل التي تسهم في تدهور الصحة العقلية، منها العوامل الحيوية البيولوجية الطبيعية كالجينات وتعقيدات المخ، ومنها خبرات الإنسان الحياتية والمشكلات التي مرَّ بها وتعرض لها، إضافة إلى التاريخ الأسري حول مشكلات الصحة العقلية. ومن العوامل المؤثرة على الصحة العقلية سلباً أو ايجاباً، وبخاصة في المجتمعات الرأسمالية المادية البحتة، كأمريكا هو الجانب الروحاني والديني في المجتمع بشكلٍ عام، وفي الأسرة والفرد بشكلٍ خاص. وهناك الكثير من الدراسات التي أوجدتْ العلاقة بين الصحة العقلية والروحانيات التي يتمتع ويؤمن بها الفرد، حيث إنها كلما زاد تدين الفرد انخفضت عنده نسبة الإصابة بأمراض الصحة العقلية، مثل الدراسة المنشورة في 22 نوفمبر 2018 في مجلة "تقارير علمية" تحت عنوان: "العلاقة بين الروحانيات والدين والصحة العقلية"، حيث أُجريت الدراسة على 1252 من البالغين البرازيليين، وأشارت إلى أن الروحانيات والتدين تخفض من مستوى القلق والاكتئاب عند الفرد وتجعله أكثر سعادة، أي تعزز من سلامة الصحة العقلية.

 

فوباء الصحة العقلية الذي نزل على الشعب الأمريكي واقع ومحسوس، فكيف ستعالج هذه الدول العظيمة هذه الأزمة الصحية العقيمة؟

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق