الخميس، 30 يونيو 2022

بحيرات ستختفي من كوكبنا


كما أن هناك عشرات الآلاف من الكائنات الحية النباتية والحيوانية والكائنات المجهرية الدقيقة التي انقرضت إلى الأبد من على سطح كوكبنا، فإن هناك البحيرات العذبة وشبه المالحة التي انقرضت، والتي تأخذ دورها في طريق الانقراض، وتوشك أن تقع فيه بسبب انكماش مساحتها سنة بعد سنة، وفقدان أعضاء من أجسامها صغيرة كانت أم كبيرة كل يوم.

 

فهذه الحقيقة تحولت منذ سنوات، وفي الأيام الماضية خاصة في الكثير من دول العالم إلى همٍ وقلق شديدين، فانخفاض مساحة البحيرات لها تداعيات كارثية شديدة الوطء، ليس من الناحية البيئية فحسب، وإنما من الناحية الاقتصادية، والصحية، والاجتماعية على حدٍ سواء، فهو يعتبر بالنسبة لي قنبلة دمار شامل، تهلك الحرث والنسل، ولا تبقي ولا تذر في تلك المنطقة المنكوبة.

 

ووسائل الإعلام الأمريكية، على سبيل المثال حقَّقتْ في هذه الظاهرة الدولية المشهودة في الولايات المتحدة، ونشرت الكثير من التقارير والتحقيقات لبيان واقعيتها من جهة، وإلقاء الضوء المباشر على شدة انعكاساتها على المجتمعات البشرية المحيطة بهذه البحيرات السقيمة، وحجم تضرر السكان في تلك المناطق. فقد نشرت صحيفة النيويورك تايمس تحقيقاً مطولاً في السابع من يونيو 2022 حول بحيرة سالت العظيمة(Great Salt Lake) الواقعة في ولاية يوتاه الأمريكية، تحت عنوان: "مع جفاف بحيرة سالت العظيمة، ولاية يوتاه تواجه قنبلة نووية بيئية"، كما نشرت مجلة " ذا ويك"(The Week)مقالاً في الثامن من يونيو حول البحيرة نفسها، عنوانه: "مدينة سالت ليك ستواجه كارثة السحب الغبارية الزرنيخية السامة إذا استمرت بحيرة السالت العظيمة في الانكماش".

 

ومن المهم ذكره بأن هذه التحذيرات المثيرة التي وردت في هذه التحقيقات الإعلامية والمقالات الصحفية، هي ليست فقاعات إعلامية فارغة، ولا مبالغات صحفية فيها، بل وإن لها سنداً علمياً مشهوداً، فهي تعتمد في محتواها على الدراسات العلمية، والتقارير الميدانية التي تحكي الواقع في تلك المناطق المتضررة، وتستقي معلوماتها من الأبحاث المنشورة في المجلات العلمية الموثوقة.

 

فهذه البحيرة التي تقع هذه الأيام تحت عدسة الصحافة ورجال السياسة قد دخلت الآن مرحلة الخطر وتواجه شبح الانقراض، ولذلك نُقلت سريعاً إلى غرفة الإنعاش، وركبت عليها الأجهزة لإنقاذ ما تبقى منها قبل فوات الأوان. فاختفاء أية بحيرة، أو انكماش مساحتها، لا يعني فقط خسارة الثروة المائية، وإنما هي فقدان لنظام بيئي متكامل وثري يعيش في ظله الملايين من البشر، ويحتمي تحته الآلاف من الكائنات الحية النباتية والحيوانية المستوطنة، إضافة إلى الطيور المهاجرة، كما أن تداعياتها تتجاوز الجانب البيئي لتبلغ تدهور صحة البشر، وهجرة الناس، وتحول المنطقة إلى سكن للأشباح، وخسائر اقتصادية تزلزل ميزانيات الدول.

 

فبحيرة سالت العظيمة، على سبيل المثال، كانت مساحتها في الثمانينيات من القرن المنصرم نحو 8546 كيلومتراً مربعاً، أي نحو عشرة أضعاف مساحة البحرين، والآن خسرت الجزء الأكبر من مساحتها فأصبحت قرابة 2590 كيلومتراً مربعاً فقط. وهذه الخسارة في المساحة تعني ارتفاع ملوحة المياه والتأثير المباشر على نوعية وكمية الأحياء التي تستطيع أن تتأقلم وتتكيف مع الظروف الجديدة، والأخطر من ذلك هو أن هذا الجزء العظيم الذي تم قطعه من جسم البحيرة تحول الآن إلى صحراء ترابية جرداء تأتيها الرياح من كل حدبٍ وصوب، فتُحرك تربتها، وتحملها إلى المدن القريبة كعواصف وسحب غبارية لم يشهدوها من قبل، فتفسد صحة الناس وتؤثر على الجهاز التنفسي والقلب بشكلٍ مباشر، وتجبرهم على هجرة مساكنهم وأحيائهم. والأدهى من ذلك والأمر، أن هذه العواصف الترابية تحمل في بطنها سموماً تقتل الحرث والنسل، فقد أكد العلماء أن تربة قاع البحيرة تتكون من سموم قاتلة منها الزرنيخ، والنحاس، والزركونيوم، أي أن الرياح التي يستنشقها الناس تكون مشبعة بهذه السموم.  

 

فما يحدث لهذه البحيرة الآن قد حدث لبحيرات أخرى ليس في الولايات المتحدة فحسب، وإنما حول العالم من غربه إلى شرقه، فالأخطاء هي نفسها يكررها الإنسان في كل مكان، فلا يريد أن يتعظ بالتاريخ القريب أو البعيد، ولا يريد أن يتعلم من غيره، ولا يريد أن يستفيد من هفوات وزلات الآخرين.

 

فبدءاً ببحيرة أونز(Owens Lake)في مقاطعة إنيو(Inyo County) بولاية كاليفورنيا التي كانت مساحتها قرابة 280 كيلومتراً مربعاً، فجفت كلياً في عام 1926 وتحولت إلى صحراء مالحة لا حياة فيها ولا روح، وانتهت من خارطة البحيرات، مما اضطر الولاية إلى إنفاق أكثر من 2.5 بليون دولار على جهود ومشاريع منع الأتربة والغبار من منطقة البحيرة الجافة من الوصول إلى المدن، ثم هناك بحيرة آرال العظيمة(Aral Sea) في آسيا في كازاخستان وأوزبكستان التي كانت تُعد رابع أكبر بحيرة عذبة في العالم ومساحتها زهاء 67 ألف كيلومتر مربع، ففقدت الآن وخسرت أجزاء واسعة من أعضائها الحية والمنتجة. وبالقرب منا هناك بحيرة أرميا(Lake Urmia) في إيران التي كانت مساحتها في عام 2013 قرابة 6100 كيلومتر مربع، فانكمشت بنسبة 90%، وتحولت إلى جزر متناثرة من البحيرات الصغيرة، وفقاً للمقال في مجلة "العلوم" في الثلاثين من أبريل 2021 تحت عنوان:" بعد إحيائها، بحيرة سالت العظيمة في إيران تواجه الخطر".

 

وعندما أجريتُ تحليلاً لأسباب هذه الكوارث التي نزلت على هذه البحيرات كلها، وجدتُ أنها تصب في أسباب مشتركة واحدة، وهي تدخل الإنسان والعبث في النظام البيئي الطبيعي الرباني الدقيق والمتوازن دون علم، وبطريقة فيها إسراف وإفراط. فالجميع يعلم بأن الثلوج التي تنزل على الجبال تذوب مع الوقت فتتحول إلى ماء يجري ويغذي الأنهار والمجاري الأخرى، وهذه الأنهار في نهاية المطاف تصب في البحيرات، فإذا أراد الإنسان الاستفادة من هذه الثروة المائية في الأنهار والبحيرات فعليه أن يأخذ في الاعتبار التوازن المائي من حيث حجم المياه الذي يغذي الأنهار والبحيرات سنوياً. فما فعله الإنسان هو تحريف مجرى الأنهار للأغراض الزراعية، أو العمرانية، أو الصناعية، إضافة إلى الإفراط الشديد في سحب المياه منها، حتى مع الوقت انخفضت أحجام المياه التي تصل إلى البحيرات مما أدى إلى جفافها. ومن جانب آخر هناك التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض بسبب أنشطة الإنسان الملوثة للهواء الجوي، وهذا الارتفاع في حرارة الأرض أدى إلى ارتفاع نسبة التبخر في الثلوج ومياه البحيرات.

 

ولنا أيضاً في البحرين تجربة خاصة تشبه هذه الظاهرة الدولية المتمثلة في انكماش وانقراض البحيرات، وتتمثل في خسارة بحيرة مالحة هي خليج توبلي لجزءٍ واسعٍ من شرايين حياته التي تمده بالقوة والروح والعطاء، وتضمن له الاستدامة. ولكن هنا السبب يختلف عن حالة البحيرات حول العالم، حيث يكمن السبب أساساً في الدفن المستمر لهذا الخليج، والذي جعل مساحته تنخفض من قرابة 25 إلى أقل من عشرة كيلومترات مربعة.

 

ففي جميع الحالات نحن بحاجة إلى تغيير نظرتنا وسلوكياتنا عند التعامل مع ثرواتنا الطبيعية الحية وغير الحية، فلا تكون نظرتنا آنية وقصيرة المدى، وإنما يجب أن تكون مبنية على سياسات واستراتيجيات طويلة الأمد تأخذ في الاعتبار حاجتنا اليومية الآن لهذه الثروة، وحاجة الأجيال القادمة من بعدنا لهذه الثروة أيضاً، فلا نتلفها، ولا نفسدها، ولا ندمر هويتها نوعيتها، ونتعامل معها برفق واعتدال وبسلطان، كما نتعامل معها على أنها ثروات ناضبة نوعياً وكمياً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق