الأحد، 1 مايو 2022

على التغير المناخي أن ينتظر، فالعالم مشغول الآن

بدأتُ أشعر منذ سنوات بأن هناك نمطاً دولياً واضحاً ومستمراً بالنسبة لمواقف وتصريحات الدول قبيل انعقاد اجتماعات الأمم المتحدة التي يشارك فيها كل دول العالم من أجل الوصول إلى اتفاقية دولية مشتركة وملزمة للجميع لمواجهة قضية التغير المناخي المعقدة والشائكة.

هذه الاجتماعات بدأت بوضع النواة الأولى للعمل الدولي المشترك في قضية التغير المناخي وارتفاع حرارة كوكبنا، حيث التقي رؤساء ورؤساء حكومات دول العالم في قمة تاريخية نادرة من نوعها لتناقش ولأول مرة قضية بيئية بحتة، وليست قضية أمنية، أو اقتصادية، أو سياسية. فهذا الاجتماع الأممي أو المعروف بقمة الأرض والذي عُقد في مدينة ريو دي جانيرو البرازيلية في عام 1992 ووافق فيه المجتمعون على "الاتفاقية الإطارية حول التغير المناخي" وضع حجر الأساس لمعاهدة دولية، ومهد الطريق أمام البدء في إجراء المفاوضات الدولية حول هذه القضية. فكان الاجتماع الأول للدول الأطراف في هذه الاتفاقية في عام 1995 في مدينة برلين الألمانية، والاجتماع الأخير رقم (26) في 2021 في مدينة جلاسجو البريطانية.

وكل هذه الاجتماعات السنوية المتكررة المستمرة منذ ثلاثين عاماً منذ قمة الأرض، لم يتمخض عنها الهدف الرئيس من عقد هذه الاجتماعات، وهو بلوغ معاهدة دولية مشتركة وملزمة للجميع، وتعتمد آليات دولية وأدوات للمراقبة ومُحاسبة ومعاقبة كل من يتخلف عن تعهداته لمواجهة هذه القضية الدولية وخفض انبعاثاته من الغازات المسؤولة عن وقوعها. ومن خلال متابعتي لمخرجات هذه الاجتماعات، فإنني أرى بأن الاجتماع الوحيد الذي تمكن من تحقيق جزء من هذا الهدف، هو الاجتماع الثالث الذي عقد في مدينة كيوتو اليابانية في عام 1997، حيث وافقت الدول على "بروتوكول كيوتو" للتغير المناخي. ولكن هذا البروتوكول لم يحقق الهدف الكلي المنشود، فقد جاء ناقصاً وغير شامل، حيث ألزم البروتوكول فقط الدول الصناعية المتقدمة الكبرى على وضع سقفٍ لانبعاثاتها من الغازات المتهمة بوقوع التغير المناخي، وفي مقدمتها غاز ثاني أكسيد الكربون، واستثنى البروتوكول الدول النامية غير المتقدمة من وضع حدودٍ تتعهد بها لخفض انبعاثاتها. ومن جانب آخر أيضاً، فإن الهدف الرئيس لم يتحقق أيضاً في أن البروتوكول فشل في وضع آلية أممية تراقب وتحاسب وتعاقب أية دولة لا تفي بالتزاماتها وتعهداتها التي قطعتها على نفسها لخفض انبعاث الملوثات المناخية.

وهذا البروتوكول في نهاية المطاف لم ير النور، ولم ينفذ في الواقع الميداني، وبخاصة بعد انسحاب أكبر دولة مسؤولة عن حدوث التغير المناخي وهي الولايات المتحدة الأمريكية، عندما وقع الرئيس الأمريكي الأسبق بل كلينتن على البروتوكول ثم جاء جورج بوش الابن ورفض التصديق عليه، فانتهى البروتوكول وانتقل إلى مثواه الأخير.

ومنذ ذلك الوقت، فمواقف دول العالم بين مدٍ وجزر، وبين موافقٍ ومعارض، وبين ملتزم كلياً وملتزمٍ جزئياً وغير مبالٍ بالعملية برمتها، فكلما تَقدم العالم في أحد الاجتماعات خطوة إلى الأمام لمكافحة التغير المناخي وارتفاع حرارة كوكبنا، نجده يتأخر ويتراجع خطوتين إلى الخلف بعد فترةٍ وجيزة من الزمن.

وأصبحت معظم دول العالم طوال السنوات الماضية تهرول في سباق ماراثوني بطيء، وتحولت من آلة تنفيذ لتعهداتها إلى آلة مواقف سياسية، وتصريحات نارية خاوية، وتقوم قبيل كل اجتماع بخطواتٍ سريعة لتتمكن من مواكبة الحدث الدولي وملاحقة المتسابقين الآخرين، فتُدلي بتصريحات قوية، وتتبنى مواقف إيجابية من التغير المناخي حتى تتجنب انتقاد وسائل الإعلام، وتتفادى أسئلة المنظمات والجمعيات الأهلية الدولية والإقليمية المتعلقة بدورها في تقليل انبعاثات غازات الاحتباس الحراري. ثم بعد أن تنطفىء شمعة الاجتماع، وتعود الوفود إلى دولها ومقر عملها، يختفي هذا الحماس الشديد، وتنسى الدول مواقفها هذه، وتعود الممارسات إلى ما كانت عليها قبيل انعقاد هذه الاجتماعات.

فعلى سبيل المثال، قبيل اجتماع جلاسجو، كما هو الحال بالنسبة للاجتماعات السابقة، معظم دول العالم بدأت بالمزاد العلني فصرحت عن تعهداتها في خفض الانبعاثات، فالولايات المتحدة الأمريكية على لسان الرئيس الجديد بايدن المتحمس لمواجهة التغير المناخي، أعلن بأنه سيخفض نسبة الانبعاث 50% بحلول عام 2030، والهند أعلن رئيس وزرائها بأنه سيحقق الانبعاث الصفري بحلول عام 2070، والمملكة العربية السعودية أعلنت خفض انبعاث الكربون إلى مستوى الصفر(الحياد الكربوني)بحلول عام 2060، ودولة الإمارات العربية المتحدة بحلول عام 2050، والبحرين بحلول عام 2060، والصين أعلنت الانبعاث الصفري بحلول 2060، وروسيا بحلول عام 2060، وبريطانيا بحلول 2030.  

فهناك عدة عوامل تجعل من مكافحة ظاهرة التغير المناخي أمراً شائكاً وصعباً، مما يجعل دول العالم في وضع صعب جداً لا يمكنها الالتزام بتعهداتها، أو تحديد سقف زمني قريب للوصول إلى خفض انبعاثاتها إلى المستويات الفاعلة والمجدية التي تجمِّد ارتفاع حرارة الأرض. فمن جهة هناك التغيرات السياسية في الدول الكبرى وتغير الحكومات والمسؤولين، فمنها حكومات تساند قضية التغير المناخي ومنها حكومات تقف حجر عثرة أمام أي تقدم في مواجهتها، كذلك هناك عامل التغير في أسعار أسواق النفط والفحم والغاز الطبيعي مقارنة بأسعار مصادر الوقود النظيفة والمتجددة، إضافة إلى الحرب الروسية الأوكرانية التي أيضاً عطَّلت جدول أعمال المناخ في بعض الدول، وعلى رأسها أكثر الدول انبعاثاً لملوثات المناخ وهما الصين والولايات المتحدة الأمريكية.

أما الصين التي أعلنت عدة مرات في اجتماعات التغير المناخي بأنها ستتخلى عن الفحم، ولن تبني محطات جديدة لتوليد الكهرباء تشتغل بالفحم، قد غيَّرت موقفها ورجعت إلى عادتها القديمة في حرق الفحم والنفط من أجل مواصلة عملية التنمية، حسب الخبر المنشور 21 أبريل 2022 في "البلومبيرج" تحت عنوان: "الصين تؤكد بناء قدرات إضافية لاستخراج الفحم هذا العام"، حيث جاء في الخبر بأن الحكومة الصينية ستزيد من الإنتاج المحلي من الفحم لتوليد الكهرباء عن طريق استخراج الفحم بنحو 300 مليون طن إضافية هذا العام، علماً بأن الفحم من المصادر الرئيسة لملوثات المناخ، والصين مسؤولة عن أكثر من 27% من مجموع الانبعاثات على المستوى الدولي. وهذا الحالة تنطبق أيضاً على دول أخرى مثل ألمانيا وإيطاليا وغيرهما بسبب النقص في إمدادات الطاقة الناجم عن الحرب، حسب المقال المنشور في البلومبيرج في 25 أبريل 2022 تحت عنوان: "الحرب الروسية تعيد العالم إلى الإدمان على الفحم".

 كذلك فإن الولايات المتحدة، المسؤولة الأولى تاريخياً عن وقوع التغير المناخي، فنتيجة لفرض حظر على النفط الروسي خلال الحرب الحالية، وبهدف منع ارتفاع أسعار النفط والوقود داخلياً، وجهت بأمر تنفيذي من الرئيس بايدن بسحب 180 مليون برميل من المخزون الاستراتيجي(Strategic Petroleum Reserve)الذي يستخدم لحالات الطوارئ، كما فتحت الأراضي الاتحادية لشركات التنقيب لاستخراج النفط، وهذا الأمر لا يتوافق مع التوجهات الدولية في التخلص من الوقود الأحفوري، كما يعني حرق المزيد من النفط وتلويث البيئة وتفاقم مشكلة التغير المناخي. فبايدن بالرغم من خطته الطموحة لمكافحة التغير المناخي، إلا أن ظروف الحرب، وتأخر الكونجرس في الموافقة على خطته، أبطأت من خطوات التنفيذ، وربما ستُجمد هذه الخطة برمتها إلى أجل غير مسمى.

وهذا التذبذب والتضارب في السياسات والمواقف تجاه مواجهة ظاهرة التغير المناخي ينطبق على باقي دول العالم، فجميعها مشغولة بهمومها ومشكلاتها الداخلية القومية، وجميعها مشغولة في تحقيق أمن الطاقة بأرخص مصدر وأقل كلفة، وجميعها تتأثر بالتجاذبات في أسعار النفط، وجميعها يقع تحت وطأة الحرب الروسية الأوكرانية، سواء بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، ولذلك على جهود التغير المناخي أن تنتظر، وفي تقديري ستنتظر طويلاً.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق