الخميس، 5 مايو 2022

تلوث الهواء يسبب النوبة القلبية


ظاهرة صحية غريبة انكشفت في بعض دول العالم أثناء نزول وباء كوفيد_19 على البشرية جمعاء، وهذه الحالة الصحية الفريدة تمثلت في انخفاض الإصابة بأمراض القلب بين الناس، وبالتحديد التعرض لحالة النوبة القلبية(Heart Attack)، أو مرض احتشاء عضلة القلب، أو موت عضلات القلب( ST‐Segment‒Elevation Myocardial Infarctions)  والمعروف بـ"ستيماي"( STEMI). وهذا النوع من أنواع النوبة القلبية يعتبر الأشد وطأة وتنكيلاً والأخطر بصحة الإنسان، حيث قد ينقله إلى مثواه الأخير سريعاً، بسبب انسداد شرايين القلب، ومنع تدفق وسريان الدم إلى القلب وباقي أعضاء خلايا الجسم.

 

وقد وثقَتْ عدة دراسات هذه الظاهرة في بعض الدول منها إيطاليا والولايات المتحدة الأمريكية، حيث نُشرت دراسة في مجلة "نيو إنجلند للطب"(New England Journal of Medicine) في 19 مايو 2020 تحت عنوان: "وباء كوفيد_19 وحالات النوبة القلبية الحادة"(Acute Myocardial Infarction)، وقد استنتجت هذه الدراسة بأن هناك انخفاضاً مشهوداً في الولايات المتحدة الأمريكية في أعداد الداخلين إلى أقسام الطوارئ في المستشفيات الأمريكية بسبب التعرض للنوبة القلبية، وبلغت نسبة الانخفاض لهذه الحالة القلبية 48% أثناء انتشار مرض كورونا مقارنة بالسنوات قبل وباء كورونا.

 

ولكن هذه الدراسات والتقارير لم تُقدم تفسيراً علمياً منهجياً حول أسباب انخفاض أعداد المصابين بالسكتة القلبية خلال فترة الوباء بشكلٍ خاص، ولم تعط أسباب انكشاف هذه الظاهرة الصحية المتعلقة بسلامة القلب، فهي فقط نشرت الإحصائيات المتعلقة بهذه الظاهرة دون الولوج في تشخيصها بعمق، أو إجراء تحليلات منهجية علمية حول العوامل والأسباب التي أدت إلى بروزها.

 

فهذه الظاهرة اجتذبت اهتمام بعض العلماء لسبر غورها والتعرف عن كثب على تفاصيلها وأسبابها، حيث نُشرت دراسة تحليلية في 29 مارس 2022 في مجلة "جمعية القلب الأمريكية" تحت عنوان: "انخفاض التلوث بسبب الوباء وعلاقته بالسكتة القلبية"، وتهدف إلى معرفة العلاقة بين وباء كورونا وأسباب انخفاض التعرض للسكتة القلبية، والعوامل التي لها علاقة بانكشاف هذه الحالة الصحية العقيمة، وحاولت الدراسة الإجابة عن السؤال التالي: هل هناك علاقة بين انخفاض هذه الحالة المرضية أثناء فترة وباء كورونا وتلوث الهواء الجوي؟

 

فقد استند البحث على قاعدة المعلومات الصحية من 47 ولاية(National Emergency Medical Services Information System) في الفترة من الأول من يناير 2019 إلى الثلاثين من أبريل 2020، حيث تم تسجيل 60722 حالة للتعرض للسكتة القلبية، ثم تمت مقارنة هذه الحالات مع جودة الهواء الجوي في تلك الفترة، وبالتحديد تركيز بعض الملوثات مثل الدخان، أو الجسيمات الدقيقة التي نصف قطرها 2.5 ميكرومتر. وبعد تحليل النتائج تبين أن هناك انخفاضاً بنسبة 6% لحالات السكتة القلبية لكل انخفاض 10 ميكروجرامات من الدخان في المتر المكعب من الهواء الجوي، أو ما يساوي 373.8 حالة أقل لكل 10 آلاف شخص_سنوياً.

 

فمن المعروف لدينا جميعاً بأنه خلال فترة الوباء تم فرض الحجر الصحي المنزلي وقام الكثير من الناس بأعمالهم في المنزل، كما انخفضت ساعات عمل المصانع وحركة المواصلات البرية والجوية والبحرية، وكل ذلك أدى إلى انخفاضٍ ملحوظ في نسبة التلوث في الهواء الجوي وتحسن مشهود في جودة الهواء في معظم مدن العالم، مما انعكس مباشرة على الصحة العامة، وبخاصة صحة القلب، فانخفضت بشكلٍ عام حالات الإصابة بأمراض القلب المختلفة، ومنها السكتة القلبية.

 

فهذه الدراسة إذن تؤكد الاستنتاجات التي توصلت إليها دراسات أخرى نُشرت من قبل، وهي كثيرة جداً، وأُقدم بعضها على سبيل المثال لا الحصر، وكل هذه الدراسات توصلت إلى نتيجة واحدة مهمة جداً هي وجود علاقة مباشرة وقوية بين تلوث الهواء وصحة الإنسان على المدى القريب والبعيد، والسقوط في شباك أمراض كثيرة، منها أمراض القلب، فالمعادلة التي يُجمع عليها الباحثون هي: كلما زاد تلوث الهواء، زادت الأمراض، وارتفعت أعداد المصابين بها.

 

فمنها دراسة شاملة منشورة في السادس من أكتوبر 2021 في مجلة "جمعية القلب الأمريكية" تحت عنوان: "التعرض طويل المدى لتلوث الهواء، وضوضاء الحركة المرورية وحالات فشل القلب: دراسة دنماركية"، حيث قيَّمت العلاقة بين حالات "فشل القلب"(heart failure (HF)) والتعرض لمدة ثلاث سنوات للملوثات الكيميائية المتمثلة في تلوث الهواء الجوي بالدخان وثاني أكسيد النيتروجين، إضافة إلى التعرض للملوثات الفيزيائية المتمثلة في ضوضاء السيارات والأصوات المرتفعة التي تصدر منها، وكانت عينة الدراسة مكونة من 22189 من  الممرضات في الدنمارك. وقد أشارت الدراسة إلى وجود علاقة بين نسبة الملوثات في الهواء الجوي وحالات الإصابة بفشل القلب، فكلما ارتفع تركيز هذه الملوثات زادت أعداد الحالات.

 

كذلك نُشر بحث في 4 مايو 2021 في مجلة "جمعية القلب الأمريكية" تحت عنوان: "التعرض للجسيمات الدقيقة ومخاطر الإصابة بمرض القلب الإقفاري وحالات السكتة"، حيث قام البحث بحصر وتحليل 69 من الدراسات المنشورة سابقاً حول علاقة التعرض لتلوث الهواء لفترات قصيرة أو طويلة من الزمن والسقوط في شباك أمراض القلب، حيث أشار إلى إن زيادة، أو ارتفاع بنسبة 10 ميكروجرامات من الدخان لكل متر مكعب من الهواء لفترة طويلة له علاقة بزيادة مخاطر مرض القلب الإقفاري بنسبة 23%، وزيادة 24% في الوفيات من أوعية المخ، و 8% من حالات النوبة القلبية.

 

وعلاوة على هذه الدراسات فقد نشرت هيئة التحرير لمجلة جمعية القلب الأمريكية في الرابع من مايو 2021 مقالاً افتتاحياً تحت عنوان: "مجلة الجمعية تُلقي الضوء على تلوث الهواء وأمراض الأوعية القلبية: نداء للتحرك العاجل"، وفي هذا العدد الخاص نُشرت عدة أبحاث حول هذه القضية الصحية البيئية، وجميعها تصب في وجود علاقة مباشرة بين تلوث الهواء وارتفاع الإصابة بأمراض القلب. كذلك نُشر بحث مشترك في مجلة سيركليشن(Circulation) في 28 يناير 2021 تحت عنوان "اتخاذ موقف ضد تلوث الهواء_التأثير على أمراض الأوعية القلبية"، حيث جاء فيه بأن لتلوث الهواء تداعيات كثيرة على صحة الإنسان، سواء تأثيراتها على الجهاز التنفسي أو القلب، ويُعد من أهم أسباب ارتفاع نسبة الوفيات في العالم. وعلاوة على ذلك أصدرت وكالة حماية البيئة الأمريكية منشوراً في الثلاثين من مارس تحت عنوان: "العلاقة بين تلوث الهواء وأمراض القلب".

 

فمن المفروض أنَّ هذا الإجماع الطبي العلمي يتحول عند حكومات دول العالم والأطباء إلى سياسات وإجراءات عملية تُنفذ في أرض الواقع، وهي كما يلي:

أولاً: على وزارات الصحة إدخال البعد البيئي، وبالتحديد تلوث الهواء ضمن العوامل التي تسبب الأمراض عام، وبالتالي عليها العمل مع الجهات الأخرى المعنية على منع وخفض نسبة الملوثات في البيئة من مصادرها، كسياسة وقائية لمنع انتشار الأمراض المتعلقة بالتلوث.

ثانياً: على الأطباء في دولنا عدم إهمال الجانب البيئي عند تشخيص المرض وعلاجه، إضافة إلى العوامل التقليدية المعروفة المسببة للأمراض كالتدخين والخمر والبدانة والتغذية، كعامل مؤثر وفاعل في إفساد صحة الإنسان، وبخاصة هذه المـُضْغة التي إذا صَلَحَتْ، صلح الجسد كله، وإذا فسدت، فسد الجسد كله، وهي القلب، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق