الاثنين، 16 مايو 2022

هل تُعاني الحيوانات من الجِتْ لاج

كل من سافر في رحلات جوية طويلة وسريعة من الشرق إلى الغرب، أو من الغرب إلى الشرق لا بد إنه قد عاني من ظاهرة، أو حالة صحية مؤقتة تعرف بالجِتْ لاجْ(jet lag)، وهي حالة من الاضطراب الجسدي الفسيولوجي والنفسي الناجمين عن هذه الرحلات الجوية الطويلة بدون توقف أو أخذ قسطٍ من الراحة والنوم. وتتمثل عادة في الشعور بالتعب والمعاناة من مشكلة حادة في القدرة على النوم قد تستمر ليومين أو أكثر، إضافة إلى تغير جذري في البرنامج والنظام اليومي العادي للنوم، فقد تكون مُستيقظاً نشيطاً طوال الليل ولا تحس بأية حاجة على النوم، أو على العكس تشعر بالتعب وبصداع شديد وعدم القدرة على البقاء قوياً ومستيقظاً طوال النهار، فتكون غير قادرٍ على العمل والإنتاج. وعلاوة على ذلك فمن أعراض الإصابة بالجت لاج هو اضطرابات في الجهاز الهضمي، وقد تكون أعراضها الإمساك وآلام في البطن.

 

فمن المعروف أن جسم الإنسان يمتلك ساعة حيوية داخلية متخصصة في إشعار الجسد بموعد الراحة والاسترخاء والنوم، ثم تنبيه الجسم بوقت الاستيقاظ والعمل والإنتاج والنشاط، ولكن في بعض الحالات يحدث خلل في هذا النظام الداخلي الفطري الذي يعمل بصورة تلقائية، وتقع مثل هذه الحالات أثناء الرحلات الجوية الماراثونية الطويلة بدون توقف، من وإلى الدول التي يوجد بها فرق في الوقت، أو الساعة من اليوم أو الليلة، حيث يكون نظام الساعة الداخلي في الجسم مُبرمجاً فطرياً ومتزامناً مع بلد دخول الطائرة، أو موقع إقلاع الطائرة، ولا تتغير ساعة الإنسان الداخلية الكامنة في الجسم مع فرق التوقيت في بلد المغادرة أو بلد الوصول، مما يسبب إرباكاً داخلياً، وخللاً في التوازن المتعلق بهذه الساعة الحيوية، وكلما زادت المسافة التي يقطعها واختلف الفرق في التوقيت بين بلد المغادرة وبلد الوصول، فإن ذلك يؤدي إلى زيادة وتفاقم درجة الاضطراب والخلل والشعور بعدم التوازن.

 

فجسم الإنسان مع الوقت عندما يعيش في مدينة واحدة لسنوات طويلة يتعود على برنامج "روتيني" متكرر يومياً، ويصبح عنده نمط من الحياة يمشي عليه يومياً بشكلٍ دوري، مثل موعد تناول الوجبات الغذائية في أوقات محددة من اليوم والليلة، ومواعيد معروفة مسبقاً لممارسة الأنشطة والبرامج الأخرى، سواء أكانت في النهار أو الليل، إضافة إلى وقت محدد يخلد فيه للنوم والاستيقاظ، وبذلك يصبح جسم الإنسان متأقلماً مع هذا البرنامج، ومتكيفاً مع هذا النوع من الحياة اليومية، وأي تغيير سريع لهذا النمط يحتاج إلى قدرة كامنة وسريعة للجسد للاستجابة هذه التغيرات المفاجئة وإعادة ترتيب فوري لهذا النمط الجديد من الحياة وضبط الساعة البيولوجية، وعند فشل جسم الإنسان في إصدار ردة فعل سريعة والتكيف مع كل هذه الحالات المستحدثة، فينزل على الإنسان اضطراب مفاجئ في صحته.   

 

فهل هذه الحالة الصحية التي تنكشف علينا بسبب تغير ظروف حياتنا فجأة، وتغير البيئة التي نعيش فيها في فترة قصيرة من الزمن، من الممكن أن تظهر على الحياة الفطرية بشقيها النباتي والحيواني؟ وبعبارة أخرى هل هذه الكائنات الحية تصاب بالجت لاج عندما يحدث تغير في مكونات البيئة الطبيعية الفطرية التي عاشت فيها آلاف السنين من نمط دوري معروف لدرجة الحرارة، وموعد موسم هطول الأمطار، ووقت شروق الشمس وغروبها، أو الوقت الذي يحين فيه الظلام والوقت الذي ينكشف فيه ضوء الشمس؟

 

فهل إذا حدثت كل هذه التغييرات، كما هو الوضع عليه الآن، يمكن أن تنعكس على صحة وسلامة الحياة الفطرية، وبالتالي تؤثر على النظام البيئي وسلامة الإنسان وأمنه الصحي على المدى البعيد؟

 

فهناك عدة قضايا انكشفت في العقود الماضية وتركت بصمات قوية ومشهودة على بعض العوامل المناخية الطبيعية لكوكبنا، فمنها ما أحدث تغييراً في درجة حرارة الأرض فرفع من سخونتها، كظاهرة التغير المناخي، والتي أحدثت في الوقت نفسها اضطراباً في موعد، وشدة، وتكرار سقوط الأمطار على المستويين الإقليمي والقومي، ومنها التلوث الضوئي والإنارة الساطعة والواسعة الانتشار جغرافياً في كل بقعة من كوكبنا، وبخاصة أثناء فترة الليل، مما أحدث خللاً في أوقات حلول الظلام، واضطراباً وتغيراً في موعد ولوج وقت الليل. 

 

وكل هذه التغيرات التي طرأت على كوكبنا بسبب تلوث البيئة وانكشاف المظاهر والقضايا البيئية الناجمة عنها، جعلت العلماء يفكرون في تأثيراتها وانعكاساتها على الكائنات الحية على وجه الأرض، سواء الإنسان، أو الحياة الفطرية.

 

وفي هذا المقال سنستعرض بعضاً من أهم الدراسات التي سبرت غور تأثير التغير في أنماط درجة الحرارة والضوء قبيل وأثناء الليل، وتغير حلول فترة الليل والنهار على الحياة الفطرية وإصابتها لحالة الجت لاج.

 

فالكائنات الحيوانية، على سبيل المثال، وبخاصة الليلية منها، تخرج من جحورها أو مخابئها أياً كانت، مباشرة بعد غروب الشمس، وبدء حلول الظلام بحثاً عن قوت يومها لها ولعيالها، وممارسة باقي أنشطتها الحياتية، ولكن عندما ترتفع شدة الأضواء، وتزداد الإنارة، وتتوسع دائرة التلوث الضوئي، فإن هذه الكائنات يصيبها التشويش في موعد الخروج، فتظن بأن وقت خروجها لم يحن بعد، فتبقى في جحورها، مما يحدث لها اضطراباً في حياتها وخللاً في نهجها اليومي.

 

وهناك أنواع من الحيوانات مثل خنفساء الروث (dung beetles) التي تعيش في دولة جنوب أفريقيا، وتعتمد في حركاتها وتنقلاتها ليلاً على ضوء النجوم في السماء والمعروف بـ"درب التبانة"، أو "الطريق اللبني"(Milky Way)، والتلوث الضوئي الذي ينير السماء بالأنوار الصناعية الساطعة لا يجعلها ترى ضوء هذه النجوم التي تهديها إلى ممارسة حياتها أثناء الليل، فتتشوش حركتها وتنقلاتها، ويجعلها تضل طريقها المألوف، مما يؤدي إلى اضطراب مزمن مع الوقت في حياتها، وربما إلى الهلاك والانقراض. وهذه الحالة تنطبق أيضاً على حركة الطيور المهاجرة الموسمية أثناء الليل، فهي تنجذب وتصطدم بالمباني المنيرة والنوافذ العالية المضيئة فتلقى حتفها، أو في الأقل تضل طريقها وتنحرف عن مسار طيرانها الذي فُطرتْ عليه أثناء الليل، حسب الدراسة المنشورة في مجلة "الطبيعية" في 30 مارس 2021 تحت عنوان: "التلوث الضوئي للأقمار الصناعية في كل مكان"، والدراسة المنشور في 14 مارس 2018 في مجلة "تقارير علمية" تحت عنوان: "التلوث الضوئي للأشد في طريق هجرة الطيور الليلية حول العالم". كذلك هناك الدراسة المنشورة في مجلة "البيئة الحيوانية"(Journal of Animal Ecology) في 24 مارس 2022 تحت عنوان: "التغير المناخي يؤثر على موعد بناء العش عند الطيور: مقارنة بين الدراسات الميدانية الحالية والسجلات التاريخية"، والتي تفيد بأن حلول الربيع يأتي باكراً عن السنوات الماضية، مما يجعل الطيور تبني أعشاشها نحو شهر واحد أبكر من الوقت الطبيعي المعروف. إضافة إلى الدراسة حول تأثير التلوث الضوضائي على حركة ومسيرة الطيور المهاجرة ليلاً والمنشورة في مجلة "الكرة الحية"(Ecosphere)في 28 مارس من العام الجاري.

 

فمن الواضح أن التلوث الضوئي والتغير في حرارة الأرض، والتداعيات الكثيرة والمتنوعة التي تنجم عنهما تعمل مع بعض بطريقة تراكمية ومجموعية، فتغير من سلوك الحياة الفطرية الحيوانية والنباتية وتحرف وتحول عاداتها الدورية الموسمية الموقوتة في زمن ومكان محددين، فتسبب لها خللاً واضطراباً شديدين مزمنين في مسيرة حياتها واستدامتها على سطح الأرض، فهي إذن كالإنسان تُصاب بحالة من "الجت لاج"، ولكنها في الكثير من الحالات قد تكون أشد وطأة وتأثيراً وهلاكاً، وتؤدي بها إلى الانقراض في نهاية المطاف.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق