الخميس، 19 يناير 2023

متى سيصعد تلوث الهواء على رأس جدول أعمال الحكومة


ماذا ننتظر حتى نضع قضية تلوث الهواء ضمن أولويات برنامج الحكومة؟

 

وحتى متى ننتظر حتى يصعد تلوث الهواء إلى قمة جدول أعمال الحكومة؟

 

فهل ننتظر أن تنزل علينا كارثة بيئية وصحية كالتي نزلت على عدة دول من قبلنا، حتى نتحرك فنعطي الأهمية المطلوبة التي تستحق للتصدي لهذه القضية المهلكة للحرث والنسل والتي تُطلق عليها منظمة الصحة العالمية بالقاتل الصامت؟

 

وهل ننتظر حتى نعاني من طامة تلوث الهواء الجوي وتداعياتها المتعددة والعقيمة، كما هو الحال الآن في بعض المدن الحضرية المكتظة بالسكان ووسائل المواصلات؟

 

فإذا كُنا لا نريد أن نتعظ بقصص التاريخ قبل عقودٍ بسيطة من الزمن، فعلينا أن نستفيد ونتعلم من زلات الآخرين ومعاناتهم البيئية والصحية والاقتصادية والتنموية من تلوث الهواء اليوم، حسب ما نراه أمامنا، ونشاهده في وسائل الإعلام والتواصل الاجتماعي الجماعي، فنَعْتبر من خبراتهم وهفواتهم وتقصيرهم في الاهتمام بجودة الهواء.

 

فهناك كوارث بيئية صحية وقعت في الماضي القريب في بعض مدن العالم تؤكد بأن تلوث الهواء قاتل، ويجعل الإنسان يلقى نحبه في سنٍ مبكرة، وهناك في الوقت نفسه حوادث متكررة حالياً تنزل على الكثير من المدن الصناعية العريقة وتبين الأضرار الصحية المستدامة التي يتعرض لها سكان هذه المدن سواء أكانت بصورة حادة أثناء زيارة السحب الملوثة والضباب السام لهذه المدن، أو بصورة أمراضٍ مزمنة نفسية، وعقلية، وفسيولوجية يعاني منها هؤلاء السكان، فتعكر عليهم صفاء حياتهم، وتصيبهم بأمراض "مركبة" ومتعددة في الوقت نفسه.

 

فلعل هذه النكبات البيئية الصحية توقظنا للمزيد من العمل نحو صيانة بيئتنا، وبخاصة الهواء الجوي، والتخطيط من الآن والعمل على منع مصادرها، أو الحد من انبعاثاتها إلى الهواء، قبل أن يفوت الأوان وتسقط الضحايا البشرية بين مريض وصريع. فالقارعة الأولى التي وثقتها كتب التاريخ البيئي بدأت صباح يوم الاثنين 25 اكتوبر 1948 في منطقة دونورا(Donora)القريبة من مدينة بتسبرج (Pittsburgh)بولاية بنسلفانيا( Pennsylvania) في الولايات المتحدة الامريكية، واستمرت المأساة التي حلَّت بالمدينة ستة أيام عجاف لا تكاد تنتهي، حتى 31 أكتوبر 1948. ففي تلك الفترة المظلمة بدأ الضباب في التراكم والتكثف فوق رؤوس المواطنين، وأبى أن ينقشع ويزول حتى وصل الى درجة انعدام الرؤية بحيث أصبحت السياقة مستحيلة في شوارع المدينة، وشلت الحركة فيها، وقد تحول بياض الضباب الناصع إلى اللون الأسود الداكن، وتعكرت رائحته، فالهواء الذى لا طعم له ولا رائحة تحول الى هواءٍ فاسد له رائحة كريهة، وطعم فاسد ومميز غريب نتيجة للملوثات التي تشبعت به من السيارات والمصانع ومحطات توليد الكهرباء، فأُصيب قرابة 14 ألف مواطن بالسعال الشديد والصداع المزمن وحمى شديدة، وتهيج الأنف والعينين، وضيق التنفس، وتدهور في الجهاز التنفسي وأداء القلب، وسقط منهم أكثر من 30 ضحية لتلوث الهواء.

 

ومن الولايات المتحدة الأمريكية ننتقل إلى القارة الأوروبية وإلى عاصمة الضباب اللندنية، حيث يعيد التاريخ نفسه وبمشاهد أشد وطأة وأكثر ضراوة على الإنسان. ففي الفترة من 4 ديسمبر إلى 11 ديسمبر 1952 نزل الضباب الأسود الملوث فوق رؤوس الناس فلقي أكثر من 4000 لندني حتفهم في أسبوع واحد فقط واكتظت جميع المستشفيات بعشرات الآلاف من المرضى من هذا الضباب السام العقيم، علماً بأن مثل هذه الحالة المأساوية تكررت من قبل في ديسمبر 1873، وفبراير 1882، ويناير 1948، ولكنها كانت أقل ضراوة من هذه المذبحة الجماعية، ولذلك لم يتعلم الإنسان من تلك التحذيرات والإنذارات السابقة، فوقعت الطامة الكبرى واضطرت الإنسان للتحرك، فاجتمع البرلمان الإنجليزي كردة فعل على هذه الكارثة، وشكل لجنة تاريخية تسمى "لجنة بيفر" (Beaver Committee )، ثم سن قانون الهواء النظيف في عام 1956.

 

والدول الشرقية، وعلى رأسها اليابان لم تكن بمنأى عن أزمة تلوث الهواء وتداعياتها على صحة المجتمع، فمدينة يوكاياشي (Yokkaichi) التي انكشف فيها مرض يوكاياشي المزمن الذي أصاب عشرات الآلاف من سكان المدينة، والمعروف الآن بمرض الربو والأمراض الأخرى التي تصيب الجهاز التنفسي، هو أفضل مثال أُقدمه لكم على تفشي الأمراض المتعلقة بتلوث الهواء. ففي مطلع الستينيات من القرن المنصرم، وبعد افتتاح مجمع للبتروكيماويات، بدأت جودة الهواء تتدهور شيئاً فشيئاً حتى تحول الهواء الذي يقي صحة الإنسان إلى هواءٍ حمضي يقتل الإنسان، كما أن الأمطار التي كانت تنزل على المدينة أصبحت سماً قاتلاً يهلك البشر والحجر والشجر. ونظراً لهول هذه الكارثة على المجتمع الياباني، فإنها كُتبت في تاريخ اليابان ضمن الحوادث السياسية الكبيرة التي وقعت كالحرب العالمية الثانية وغيرها.

 

واليوم نرى أمامنا أمراضاً مزمنة تصيب البشر نتيجة لتلوث الهواء من خلال انكشاف ظاهرة تهدد حياة البشر منذ الأربعينيات من القرن المنصرم، ومازالت مستمرة وتنزل على الكثير من مدن العالم التي تعاني من كثرة مصادر التلوث وفساد الهواء الجوي. وتتمثل هذه الظاهرة الأليمة في تكون سحبٍ صفراء بنية اللون تُعرف بالضباب الضوئي الكيميائي(photochemical smog)، وينتج هذا الضباب نتيجة للملوثات التي تنبعث من السيارات، والمصانع، ومحطات توليد الكهرباء، وهذه الملوثات تتفاعل مع بعض وبوجود أشعة الشمس لتكون خليطاً ساماً من مجموعة من الملوثات المؤكسدة الشديدة الخطورة مثل غاز الأوزون. وهذه السحب المَرَضية عندما تظهر في السماء تُوقف عجلة التنمية كلياً في المدينة، وتشل حركة البشر ووسائل المواصلات، كما تُحذر وسائل الإعلام الرسمية الناس، وبخاصة الأطفال وكبار السن من الخروج من منازلهم، وتحثهم على تجنب الأنشطة خارج المنزل، كذلك تعلن المدينة حالة الطوارئ الصحية.

 

ومنذ أكثر من ثمانين عاماً والإنسان يعاني من هذه الظاهرة القاتلة، ولم يتمكن من القضاء عليها كلياً، فنسمع عنها في معظم المدن العريقة، مثل لوس أنجلوس ونيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، ولندن وباريس في القارة الأوروبية، وريو دي جانيرو والمكسيك في قارة أمريكا الجنوبية، وبكين وشنغهاي وطهران ونيودلهي في آسيا، وسيدني في أستراليا، ومدن كثيرة أخرى حول العالم.

 

ومؤشرات وقوع هذه الظاهرة حاضرة أمامنا في البحرين، ونحن سائرون في الطريق نفسه المؤدي إلى وقوعها ونزولها على رؤوسنا، وتتمثل هذه المؤشرات في الزيادة المطردة والمتسارعة والكبيرة في المصانع المتحركة، وهي السيارات، إضافة إلى المصادر الثابتة للتلوث التي تتعاظم أيضاً كالمصانع، ومحطات توليد الكهرباء وتحلية المياه، ومحارق المخلفات، كما أن مؤشراتها الواقعية التي نراها هي مشاهدة السحب الصفراء من وقت إلى آخر في الأفق في سماء البحرين.

 

ولذلك أتمنى من رؤية البحرين 2030 وبرامج الحكومة أن تُدمِج تلوث الهواء في كافة أنشطة الوزارات والهيئات كقضية مستقبلية من المحتمل كثيراً أن تقع، فنُخطط استباقياً من الآن لتجنبها، ونضع استراتيجية وقائية واضحة لمنع وقوعها من خلال اتخاذ جميع الإجراءات وبحزم وصرامة، لمنع مصادر تلوث الهواء، أو في الأقل خفض انبعاث الملوثات منها.

 

فلا نريد أن ننتظر أن تنزل علينا الكارثة البيئية الصحية التي نزلت على الشعوب الأخرى، ومازالت تنزل عليهم، حتى نتحرك ونعمل، فعندها يكون الضرر قد وقع وعمَّ الشعب كله، وستكون أعمالنا ردود فعل سريعة ومتعجلة لا تقضي على الكارثة من جذورها.    

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق