الاثنين، 9 يناير 2023

الماء المَهِين في خطر، فهل سينقرض الإنسان؟

تحرك الإنسان لعلاج القضايا البيئية ووقف تداعياتها على المجتمع البشري يكون عادة متأخراً وبطيئاً، ويتمثل هذا التحرك في ردودٍ فعل سريعة وغير مستدامة، ومن خلال تقديم حلولٍ ترقيعية مؤقتة لا ترقى إلى استئصال المشكلة البيئية من جذورها والتخلص منها كلياً.

 

كما أن القضية البيئية عندما تكون عالمية ومشتركة، أي أن مردوداتها تنزل على الكرة الأرضية برمتها والجميع مسؤول بدرجة متفاوتة عن وقوعها، فعندئذٍ تكون خطوات العلاج تسير ببطء أشد، والحل يكون أكثر تعقيداً وتشابكاً بسبب طريقة وأسلوب عمل دول العالم تحت سقف الأمم المتحدة، ونتيجة للإجراءات العقيمة والمملة التي تتبعها منظمات الأمم المتحدة لإشراك جميع الدول في المساهمة في الحل. ولذلك فآلية اتخاذ القرارات في اجتماعات الأمم المتحدة الخاصة بالبيئة تكون مبينة على أسسٍ سياسية، وتغلب عليها مصالح الدول على مصالح البيئة وأمنها الصحي، كما إنها في الوقت نفسه تُقدم وتفضل آراء الدول ومواقفهم الضيقة على الرأي العلمي ونتائج البحوث الميدانية. وهذه القرارات الأممية تُتخذ بالإجماع، أي يجب التوافق مع مئات الدول المشتركة في الاجتماع، وفي نهاية المطاف، وبعد ضياع الجهد والوقت يكون تنفيذها طوعياً وليس ملزماً لأية دولة، كما أن الأمم المتحدة ليست لها السلطة، ولا توجد لديها آلية واضحة ودقيقة للمراقبة ومحاسبة الدول عند تقصيرها، أو عدم تنفيذها للقرارات والالتزامات.

 

وهناك أمثلة كثيرة يمكن تقديمها لإثبات هذه الحقيقة المتمثلة في بطء اتخاذ القرار لعلاج أية مشكلة بيئية، وفي البون الواسع والفجوة الكبيرة فكرياً وزمنياً بين دراسات العلماء واكتشافاتهم وقراراتهم، وبين رجال الحكم والسياسية ومنظمات الأمم المتحدة عند إدارة أية مشكلة على المستويات القومية والإقليمية والدولية. ولذلك نجد بأن هناك عقوداً من الزمن تُفرِّق بين جهود العلماء وآرائهم حول أية قضية بيئية وبين تحرك رجال الحكم والسياسية للنظر فيها والتفاوض حول حلولها، فرجال السياسة دائماً متأخرين كثيراً في مواقفهم عن رجال العلم.

 

ومن أكثره الأمثلة وضوحاً هو إدارة الإنسان لملف التغير المناخي لكوكب الأرض. فقد اكتشفتْ المؤشرات الأولية لظاهرة احتمال وقوع تغير مناخي للكرة الأرضية في أوائل القرن التاسع عشر على مستوى فردي من قبل عددٍ قليلٍ من العلماء، ثم مع الوقت ومنذ نهاية القرن دخلت الظاهرة في جدول أعمال العلماء ومؤتمراتهم، وبدأوا يناقشونها كقضية محتملة الوقوع، إضافة إلى الدور الذي يمكن أن تقوم به بعض الغازات مثل ثاني أكسيد الكربون في رفع درجة حرارة الأرض، ومدى مساهمة أنشطة البشر في سخونة الأرض. وهذه القضية بدأت تنكشف بوضوح أكثر في الواقع المناخي العالمي مع دخول حقبة الستينيات من القرن المنصرم، ولكن لم تدخل هذه القضية المتعددة الجوانب في جدول الأعمال الرسمي للأمم المتحدة إلا بعد مرور مئات السنين، وبالتحديد في قمة الأرض في ريو دي جانيرو عام 1992 عندما وقعت دول العالم على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي. وبالرغم من هذا التطور إلا أن هناك، وعلى مستوى الدول، من لا يؤمن بمساهمة الإنسان الرئيسة في نزول التغير المناخي على كوكبنا، بل ويشكك كلياً في وقوع هذه الظاهرة، كما أن دول العالم مازالت تدور في حلقة كبيرة مفرغة، فلم تصل حتى الآن إلى اتفاقية دولية مشتركة وملزمة لكافة دول العالم.

   

واليوم أقفُ معكم أمام قضية بدأت تنكشف ملامحها بوضوح أكثر وتزيد الأدلة العلمية حول وقوعها سنة بعد سنة، وأخذ العلماء بالبحث في تفاصيلها وملابساتها وأسبابها، ولكنها كالعادة بالنسبة للقضايا البيئية الصحية فإنها غائبة كلياً في هذه المرحلة من عمر القضية عن جدول أعمال رجال السياسة، أو منظمات الأمم المتحدة المعنية، وهي قضية محددة، في ظاهرها "صحية"، ولكن في باطنها وأعماقها تُعد في تقديري قضية بيئية من الدرجة الأولى. وتتمثل في مشكلة وظاهرة تدهور نوعية وكمية الماء المَهِين، أو الحيوانات المنوية للإنسان، والتي كما يعلم الجميع لها علاقة بالصحة الإنجابية على المدى القريب، ومرتبطة مباشرة باستدامة حياة الإنسان والتهديد باحتمال انقراضه من على وجه الأرض على المدى البعيد.

 

وهناك الآلاف من الأبحاث التي نُشرت لسبر غور هذه القضية، وربما من أولى الدراسات التحليلية الجامعة التي قيَّمت الدراسات السابقة في هذا المجال، ولفتت الأنظار نحو هذه القضية بشكلٍ جدي هي المنشورة في 12 سبتمبر عام 1992 في مجلة الأطباء البريطانيين(British Medical Journal) تحت عنوان: "الدليل على انخفاض نوعية الحيوانات المنوية خلال الخمسين سنة الماضية". فقد كشفت الدراسة عن انخفاضٍ شديد وملموس في كثافة الحيوانات المنوية عند الرجال في الدول الغربية المتقدمة في الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا في الفترة من 1938 إلى 1991، أي على مدى 53 عاماً، حيث انخفض معدل أعداد الحيوانات المنوية من 113 مليون في الملي ليتر في 1940 إلى 66 مليون في عام 1990، كما قل الحجم من 3.4 ملي ليتر إلى 2.75.

 

كذلك هناك الدراسة المنشورة في مجلة" شؤون صحة البيئة"(Environmental Health Perspectives) في نوفمبر 1997 تحت عنوان: "هل حدث انخفاض في كثافة الحيوانات المنوية؟ إعادة تحليل للمعلومات الدولية"، حيث قامت بتقييم وتحليل 61 دراسة أجريت في الدول الغربية ودول غير غربية. وقد أكدت هذه الدراسة على النتائج التي توصلت إليها الدراسة السابقة، حيث أشارت إلى وجود انخفاض في كثافة الحيوانات المنوية في الولايات المتحدة الأمريكية في الفترة من 1938 إلى 1988، وبنسبة تصل إلى قرابة 1.5% سنوياً، وفي القارة الأوروبية وأستراليا أيضاً في الفترة من 1971 إلى 1990 وبنسبة تبلغ نحو 3% سنوياً، ولكن هذا النمط من الانخفاض لم يكن موجوداً في الدول غير الغربية في الفترة من 1978 إلى 1989، علماً بأن الدراسات والمعلومات كانت شحيحة في هذه الدول.

ولذلك كان على العلماء الإجابة عن السؤال التالي: هل ظاهرة انخفاض الحيوانات المنوية قاصرة فقط على الدول الغربية المتقدمة، أو إنها ظاهرة عامة في كل دول العالم، أي أنها قضية مشتركة تهم كل الدول؟.

 

وقد جاءت الإجابة عن السؤال في الدراسة المنشورة في 25 يوليو 2017 تحت عنوان: "الأنماط الزمانية لعدد الحيوانات المنوية: حصر للدراسات السابقة"، في مجلة(Human Reproduction Update). فقد قامت الدراسة بحصر وتحليل الأبحاث المنشورة حول هذه القضية في الفترة من 1981 إلى 2013، وشملت أكثر من سبعة آلاف بحث غطت قارات العالم ومعظم الدول، حيث أشارت إلى وجود انخفاضٍ مشهود ومتسارع في تركيز الحيوانات المنوية في الفترة من 1973 إلى 2011، وكان معدل نسبة الانخفاض الإجمالي في هذه الفترة يتراوح بين 50 إلى 60%. كما أكدت على هذه النتائج الدراسة المنشورة في المجلة نفسها في 15 نوفمبر 2022 تحت عنوان: "الأنماط الزمانية لعدد الحيوانات المنوية: مراجعة تحليلية للعينات التي جمعت دولياً في القرنين 20 و 21"، حيث غطت الدراسة 53 دولة وفترة زمنية من 2014 إلى 2019. وقد أكدت الدراسة على انخفاض معدل تركيز الحيوانات المنوية من 101.2 مليون لكل ملي ليتر إلى 49 في الفترة من 1973 إلى 2018، أي انخفض بنسبة 51.6%، والعدد الإجمالي انخفض بنسبة 62.3%، وبشكل عام حول العالم فمعدل الانخفاض السنوي يتراوح بين 1.16% إلى 2.64.

وفي الجانب الآخر هناك دراسات كثيرة جداً اطلعتُ عليها حول أسباب وقوع هذه الظاهرة على المستوى الدولي، حيث أشارت الدراسات إلى أن الأسباب معظمها متعلقة بتعرض الإنسان للملوثات، أي أنها قضية بيئية وصحية في الوقت نفسه، ومن هذه الملوثات غاز الأوزون، والدخان أو الجسيمات الدقيقة، والبنزين، والمركبات العضوية العطرية التي تحتوي على الكلورين، والمواد التي تضاف عند إنتاج البلاستيك. ومصادر هذه الملوثات لا تعد ولا تحصى منها السيارات، والسجائر، والبخور، والأثاث المنزلي، والهواء العادي الملوث، والمبيدات. وفي المقابل هناك أسباب أخرى متعلقة بنوعية غذاء الإنسان، ونمط حياته من حيث ممارسة الرياضة، وحالته النفسية، إضافة إلى الوزن الزائد. 

فمن خلال تقديم هذه الأمثلة القليلة جداً من الدراسات التي غطت كل دول العالم، نصل إلى استنتاج عام هو أن عدد ونوعية الحيوانات المنوية في انخفاض وتدهور متسارع على المستوى الدولي وأسبابها بيئية، أي أنها قضية بيئية صحية عامة وتشترك فيها كل دول العالم، مما يعني أن على رجال الحكم والسياسة ومنظمات الأمم المتحدة المعنية الاهتمام بها لعلاقتها بخصوبة الإنسان واستمرارية الجنس البشري، ولكن كما تعودنا فإن هناك فجوة زمنية طويلة بين اكتشافات العلماء واهتمامات المجتمع الدولي الرسمي، ولذلك ربما علينا الانتظار عقوداً طويلة من الزمن حتى يلتفت المجتمع الدولي إليها ويتحرك لعلاجها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق