الاثنين، 30 يناير 2023

تعاظم واتساع دائرة التلوث الضوئي

من الممارسات التلقائية الروتينية والفطرية التي يقوم بها كل إنسان يومياً قبل أن ينام هو إطفاء المصابيح والأنوار كلياً، أو جعل الأضواء في غرفة النوم خافتة وخفيفة جداً لكي ينام نومة هانئة ومطمئنة ومريحة.

 

فهل جربتَ يوماً أن تخلد إلى النوم ولكن مع فتح الأنوار دون إطفائها؟

 

لا شك بأنك إذا جعلتَ الأنوار والمصابيح مفتوحة في الغرفة التي تنام فيها ستَبقى مُضطرباً ومنزعجاً طوال الليل، وستتقلب يميناً ويساراً محاولاً أن تغمض عينيك فتنام، ولكن في أغلب الأحيان لن تنجح في أخذ قسط من الراحة والنوم، ولن تنعم مهما فعلت بنومٍ هادئ ومريح في تلك الليلة الطويلة، وهذا بالطبع سينعكس على أدائك وإنتاجك ونفسيتك ومزاجك في اليوم التالي أثناء النهار عند ذهابك لعملك.

 

فالله سبحانه وتعالى قد جعل الليل لباساً والنهار معاشاً، ففي الليل الدامس، وفي الظلام الحالك، وعندما تغيب أشعة الشمس ويذهب النهار ويختفي، يخيم ظلام الليل علينا جميعاً، وعندها فقط يرتاح الجسد ويسترخي، ويأخذ قسطاً من الراحة من عناء وتعب اليوم كله، وتنعم أعضاء الجسد برمتها من الخلايا البسيطة التي لا تُرى بالعين المجردة إلى باقي الأعضاء الكبيرة بالأمن والسلامة، ويقوم كل منها من الخلايا والغدد والهرمونات والعمليات الحيوية فيؤدي كل منها وظيفته المحددة لها أثناء الليل لكي يكون الجسد والنفس والعقل في حالة الاستعداد والجهوزية التامة بعد ذلك لمواجهة يومٍ طويل آخر.

 

فما يحدث الآن للكرة الأرضية من تحول الليل نهاراً في البر وفي أعماق البحار بسبب الأضواء الشديدة والمرتفعة، والأنوار العالية القادمة من أعالي السماء ومن فوق رؤوسنا من عشرات الآلاف من الأقمار الصناعية وغيرها التي تسبح في الفضاء وتسير حول الأرض في مدارات منخفضة، ومن سطح الأرض من أنوار المصابيح في الأسواق والمجمعات التي لا تنام، ومن السيارات التي لا تتوقف عن الحركة، ومن أعمدة الإنارة في الشوارع، فكل هذه المصادر المتزايدة والمتعاظمة سنوياً تُقلب موازين الحياة ومعادلاتها المتزنة والدقيقة، وتُحدث اضطراباً وشرخاً في النظام البيئي المتمثل في دور الليل ووظيفة النهار، وتنعكس على ما تعود عليه الإنسان والحياة الفطرية التي تعيش معنا من سلوك وتصرفات ومهمات، وتؤدي كل هذه المصادر الضوئية إلى ما يُطلق عليه الآن بالتلوث الضوئي، أو التلوث الناجم عن شدة الإضاءة أثناء الليل، فيصبح الليل نهاراً.

 

فهذه الظاهرة الجديدة لفتت أنظار العلماء، وشدَّت انتباههم إلى الدخول فيها من عدة أبواب، منها الباب المتعلق بواقعية الظاهرة ومدى اتساعها على مستوى كوكبنا، والثاني تأثيراتها وانعكاساتها على الصحة العامة للبشر، والثالث فهو مردودات هذا التلوث الضوئي وشدة الأنوار والأضواء الساطعة طوال الليل على الكائنات الفطرية من نباتات وحيوانات وطيور التي تعيش معنا على كوكبنا، سواء التي تنام عند حلول الظلام، أو التي تنشط وتبحث عن غذائها وتنتقل من منطقة إلى أخرى فتهاجر بعد غياب الشمس ونزول الظلام. وهذا الباب في تقديري هو المهم والذي يجب معرفة تفاصيله، فالإنسان يستطيع أن يتكلم ويتصرف عندما يعاني، وبقدرته أن يتكيف فيغير الظروف التي يمر بها ويحسن من نمط حياته، ولكن الكائنات الفطرية النباتية والحيوانية في البر والبحر والجو التي هي القاعدة الأساسية التي تستند عليها استدامة حياة الإنسان على الأرض إلى من تشتكي، وكيف تتصرف؟ وكيف لنا أن نعرف معاناتها والأضرار التي تلحق بها بسبب التلوث الضوضائي؟ وكيف لنا أن نُحدد نوعية وحجم تأثير وانعكاس هذه الأضرار التي تُصيب الحياة الفطرية على الإنسان نفسه بشكلٍ مباشر أو غير مباشر وعلى المدى البعيد؟  

 

أما المجال البحثي الأول فيؤكد اتساع رقعة المساحة التي تتعرض للتلوث الضوئي على كوكبنا وزيادتها بشكلٍ سنوي، حيث قدَّرت بعض الدراسات إلى أن قرابة 80% من الأرض تعاني بدرجة أو بأخرى من هذا النوع من التلوث العقيم، كما أفاد البحث المنشور في مجلة "العلوم"( Science) في 19 يناير 2023 تحت عنوان:" "تقارير العلماء حول الانخفاض السريع لرؤية النجوم من 2011 إلى 2022"، إلى أن السماء تزيد فيها نسبة الإنارة أثناء الليل بشكلٍ متسارع بسبب المصابيح على الأرض، فالإنارة ارتفعت بنسبة 9.6% سنوياً من 2011 إلى 2022، كذلك فإن عدد النجوم التي تُرى بالعين المجردة انخفض بنسبة مرتفعة تتوافق مع الزيادة السنوية لنسبة الإضاءة للسماء نتيجة للنمو السكاني المطرد، وتوسع وازدياد المدن الحضرية، واستخدام مصابيح حديثة، وبالتحديد الـ إل إي دي(LED).

 

والمجال البحثي الثاني فيركز على تغير نماط وسلوكيات الحياة الفطرية من نباتات وحيوانات وطيور نتيجة لتغير معادلة نسبة الضوء في الليل والنهار وارتفاع الأنوار أثناء الليلة خاصة. فعلى سبيل المثال، نُشرت دراسة في العاشر من يوليو 2019 في مجلة "رسائل علم الأحياء"(Biology Letters) تحت عنوان: "الضوء الصناعي في الليل يسبب فشل التكاثر في نوع من الأسماك"، حيث يقوم هذا البحث بدراسة تأثير الضوء الليلي على تكاثر سمك المهرج(clownfish)، وأفادت النتيجة إلى أن بيض هذه السمكة لم يفقس عند التعرض للضوء في فترة الليل، مما يعني على المدى البعيد انقراض هذه السمكة المرجانية من بحار العالم. كذلك من المعروف علمياً أن السلاحف البحرية تتجنب وضع البيض في مناطق ساحلية شديدة الأنوار والإضاءة أثناء الليل، إضافة إلى حدوث تغيرٍ في سلوك وخط سير وتحليق الطيور المهاجرة التي فُطرت عليها جيلاً بعد جيل أثناء الليل استناداً إلى نتائج الدراسة المنشورة في 14 مارس 2018 في مجلة "تقارير علمية" تحت عنوان: "التلوث الضوئي في طريق هجرة الطيور الليلية حول العالم"، إضافة إلى الدراسة المنشورة في مجلة "الطبيعية" في 30 مارس 2021 تحت عنوان: "التلوث الضوئي للأقمار الصناعية في كل مكان".

 

ومن جانب آخر فإن أنماط حياة النباتات تغيرت بسبب التلوث الضوئي والتغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض، فالربيع يحل عليناً مبكراً الآن، وعلامات ومؤشرات هذه الظاهرة الجديدة هي أن النباتات تفتح ورودها في أوقات أبكر من الوقت الطبيعي المعروف منذ آلاف السنين، والطيور تغرد في ساعات أبكر، حسب نتائج الدراسة تحت عنوان: "التلوث الضوئي له علاقة بظهور البراعم أبكر في الأشجار في المملكة المتحدة"، والمنشورة في 29 يونيو 2016 في مجلة "وقائع الجمعية الملكية"( Proceedings of the Royal Society B)، إضافة إلى الدراسة تحت عنوان: "التلوث الضوئي يجعل الطيور تبني عشها في وقت أبكر"، والمنشورة في 15 ديسمبر 2020 في مجلة "الطبيعة"، مما يعني حدوث تغيرٍ في موعد تكاثر الطيور. وعلاوة على ذلك فإن الخنفساء البرية من نوع (dung beetles)في دولة جنوب أفريقيا تتحرك فطرياً أثناء الليل بمساعدة أجرام السماء، وبالتحديد "درب التبانة"(Milky Way)، ولكن مع شدة الأنوار الآن يصعب عليها رؤيتها، فتضيع طريقها وتنحرف عن مسارها الفطري الطبيعي، مما يسبب لها اضطراباً وتشوشاً كبيراً في حياتها الليلية، وربما يؤدي مع الوقت إلى فنائها وانقراضها.

 

وأما المجال البحثي الثالث وهو تأثير هذا الخلل والاضطراب الذي نزل على الحياة الفطرية من حيوانات ونباتات وطيور في البر والبحر والجو بسبب التلوث الضوئي على حياة الإنسان نفسه، فهو مازال في بداياته، ولم تتضح الصورة كلياً بعد، ولكنني على يقين بأن الأبحاث العلمية المستقبلية ستؤكد الجوانب السلبية التي ستقع على البشر نتيجة لهذه الظاهرة الحديثة والمتعاظمة سنوياً، فهناك علاقة وثيقة مباشرة وغير مباشرة تربط الإنسان بهذه الكائنات الحية التي تعيش معنا.

 

وختاماً من المهم ذكره والاهتمام به هو أننا كبشر والحياة الفطرية، لا نعيش فقط تحت وطأة مشكلة واحدة فقط هي التلوث الضوئي بعيداً عن المشكلات الأخرى، ولكننا نعاني من الكثير من المشكلات القديمة والمتجددة والمستحدثة في الوقت نفسه، والتي نتعرض لها كل ساعة من حياتنا، مثل التغير المناخي وتدهور التنوع الحيوي والتلوث الكيميائي، وهذه المشكلات مجتمعة قد تعمل كلها مع بعض بصورة جماعية تعاونية ومتراكمة مع الزمن، فتؤثر على استدامة الحياة الفطرية وبالتالي استدامة بقاء الإنسان على وجه الأرض. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق