الثلاثاء، 7 فبراير 2023

المقابر البيضاء في بحار العالم؟

ليست مساحات بيضاء صغيرة يمكن تجاهلها وغض الطرف عنها، وإنما هي مقابر بيضاء ناصعة البياض كالثلج، تُنير وتضيء في الليالي الظلماء وعلى مساحات واسعة في الكثير من بحار ومحيطات العالم، بحيث إنه يمكن مشاهدة نورها وتوهجها من أعالي السماء في الفضاء العليا عبر صور الأقمار الصناعية التي يتم التقاطها للكثير من البحار حول العالم، منها المحيط الهادئ، والمحيط الهندي، والبحيرات العظمى والبحر الأخضر في ولاية نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، وجزر الباهامس في المحيط الأطلس(Bahamas)، وبحر العرب، والخليج العربي، وبحيرة كيفو(Kivu) في وسط أفريقيا.

 

فهذا المناطق البحرية التي يصفها العلماء بحليب البحر من شدة بياضها تصل مساحتها في بعض الحالات إلى أكثر من مائة ألف كيلومتر مربع، أي أكبر من مساحة البحرين بمائة مرة، وتستمر في مكوثها في البحر كالغيوم البيضاء القابعة على سطح البحار وهي تنير وتضيء ظلام الليل لأكثر من ثلاثة أشهر طويلة وثقيلة.

 

وقد تابعتْ "ناسا" هذه الظاهرة الغريبة منذ عقودٍ من الزمن من خلال برنامج مشاهدة الأرض(NASA Earth Observatory)، باستخدام القمر الصناعي(Aqua satellite)، وحاولت جاهدة من خلال التقاط الصور الفضائية بصفةٍ دورية في معظم بحار ومحيطات العالم لفك أسرار هذه الظاهرة البحرية الغامضة واللغز المحير، كما تعاونت في الوقت نفسه مع رواد البحر من السفن البحثية، والتجارية، والعسكرية لأخذ عينات من مياه البحر في تلك المواقع البيضاء لتحليلها وتوثيق وجودها في الميدان. 

 

وهناك دراسات محدودة نُشرتْ حتى الآن لسبر غور هذه الظاهرة العالمية، والتعرف عن كثب على تفاصيلها من حيث وجودها في بحار وبحيرات العالم، ومساحتها، ومدة بقائها على سطح البحر، إضافة إلى الأبحاث التي حاولت الإجابة عن الأسئلة المتعلقة بمصدر ظهورها وأسبابها وعلاجها.

 

فعلى سبيل المثال هناك الدراسة المنشورة في سبتمبر 2016 في مجلة "التغيرات الكوكبية والدولية" (Global and Planetary Change) حول انكشاف ظاهرة الطحالب البيضاء، أو المناطق ذات اللون الحليبي على سواحل نيوزيلندا. فقد أفادت الدراسة بأن هذه الظاهرة قديمة ومتجددة، كظاهرة تحول البحر إلى اللون الأخضر، أو البني، أو الأحمر التي تنكشف في معظم المسطحات المائية حول العالم، ولكن هناك ظروفاً مناخية متعلقة بارتفاع درجة حرارة المياه، والتيارات المائية، إضافة إلى المغذيات التي تعمل جميعها بشكلٍ مجموعي وتعاوني على تفاقم نمو الكائنات النباتية(الفيتوبلانكتون) كالطحالب، وتكاثر البكتيريا عليها بدرجة "طفرية" كبيرة وتكوين مستعمرة عليها بكثافة عالية جداً، فتزيد مساحتها وتوسعها ومكوثها أشهر طويلة في المياه.

 

 كما أفادت الدراسة بأن الصور الفضائية من الأقمار الصناعية تشير إلى أن الارتفاع المطرد في درجة حرارة المحيطات هو أحد أسباب تحول البحر إلى اللون الأبيض نتيجة لنمو الطحالب البيضاء من نوع "كوكوليثوفور"(Coccolithophore). وهذا النوع من "الفيتوبلانكتون" أو الطحالب تُغطي نفسها بغطاء وطبقة واقية من مادة كربونات الكالسيوم البيضاء اللون(calcifying phytoplankton)، يُطلق عليها "كوكوسفير"(coccosphere) وتحميها من افتراس الكائنات الأخرى من الحيوانات "الزوبلانكتون" المجهرية. وهذه الطحالب التي تحتوي خلاياها على جدار من الكالسيوم عندما تموت تتحلل وتترك وراءها مركب كربونات الكالسيوم البيضاء الذي يتم عالقاً في عمود الماء فترة من الزمن، فيحول البحار إلى اللون الأبيض قبل أن يترسب إلى قاع البحر.

 

وفي 29 يوليو 2021 نُشرت دراسة في مجلة "تقارير علمية (Scientific Reports) حول "مراقبة البحار الحليبية المضيئة من الفضاء في الفترة من 2012 إلى 2021 ". وقد ذكرتْ الدراسة في المقدمة بأن عدد المظاهر التي تم توثيقها ورؤيتها للبحار البيضاء بلغ 235 خلال الفترة من 1915 إلى 1993، وبمعدل 3 كل سنة، وكانت الأكثر شيوعاً في المحيط الهندي بالقرب من أندونيسيا، وفي بحر العرب. 

 

فهذا البحث أَجرى دراسة شاملة على ثلاث مناطق في الفترة من 2012 إلى 2021، فأما المنطقة الأولى فتقع في المحيط الهندي في سواحل أندونيسيا حول جافا، حيث تم الكشف عن 12 منطقة، حيث بلغت مساحة المقبرة البيضاء الأكبر مائة ألف كيلومتر مربع، وكأنها قارة قطبية ثلجية. وأكد الباحثون الميدانيون بأن المنطقة غير مرئية خلال النهار ولكنها مضيئة وتنبعث منها الأنوار أثناء ظلام الليل حسب المشاهدات الميدانية والصور الفضائية من الإدارة القومية للمحيطات والغلاف الجوي(نووا)، واستمرت هذه المساحة العظيمة في الإضاءة نحو 45 يوماً. والمنطقة الثانية فهي في بحر صوماليا وكانت مساحتها قرابة 15400 كيلومتر مربع، وأما المنطقة الثالثة فكانت في بحر العرب بالقرب من سوقطرة ومساحتها قرابة 9000 كيلومتر مربع من المناطق البيضاء المضيئة.

 

وقد أوعزت هذه الدراسة ظهور هذه المنطقة الناصعة البياض على سطح البحر إلى ظاهرة الإثراء الغذائي من الطحالب البيضاء الواسعة الانتشار والتي تنمو عليها البكتيريا المتوهجة والمضيئة (bioluminescent bacteria) نتيجة للكثافة العالية لأعدادها التي تصل إلى أكثر من مليون خلية في الملي ليتر من الماء. وهذا النوع من البكتيريا عندما يصل إلى هذا العدد الكبير فوق مستعمرة الطحالب يبدأ بإطلاق النور والضوء بشكل تلقائي في ظاهرة يُطلق عليها "استشعار النصاب"(Quorum sensing)، فهذه الظاهرة مرتبطة بالكثافة العددية للبكتيريا.

 

كذلك هناك الدراسة المنشورة في 11 يوليو 2022 في مجلة "وقائع الأكاديمية القومية الأمريكية للعلوم"( Proceedings of the National Academy of Sciences)، تحت عنوان:" مشاهدات من سفينة بحرية في جافا عام 2019". وهذه الدراسة قدَّمت نظرية مشابهة للدراسة السابقة والتي أكدت على انبعاث النور والضوء من المستعمرة الكثيفة للبكتيريا التي تنمو على الطحالب المجهرية التي بينها علاقة تعرف علمياً (saprophytic relationship)، وهي العلاقة التي تحصل فيها البكتيريا على غذائها على الطحالب التي تموت وتبدأ بالتحلل.

 

وأخيراً هناك الدراسة المنشورة في الأول من فبراير 2023 في مجلة "بيئة الاستشعار عن بعد"( Remote Sensing of Environment) تحت عنوان: "الزيادة الغامضة لحوادث تلوث البحر في الباهاما"، وغطت هذه الدراسة فترة زمنية من 2003 إلى 2020 في جزر الباهاما بالقرب من سواحل فلوريدا الأمريكية. وقد أفادت الدراسة بأن معدل المساحة البيضاء في جزر الباهاما كان 87.1 كيلومتر مربع وأن المساحة كانت في ازدياد مع الزمن كل سنة، فارتفعت من 25 كيلومتراً مربعاً في عام 2003 إلى الذروة في عام 2015 ومساحتها 350 كيلومتراً مربعاً. كما شملت الدراسة سواحل ولاية فلوريدا، حيث راقبت ظهور هذه المقابر البيضاء لمدة 4748 يوماً، وهذه المناطق كانت موجودة في 656 يوماً، وبالأخص في الربيع والخريف في عامي 2011 و 2012 على بعد نحو 40 كم من الساحل.

 

وجميع هذه الدراسات لم تُجمع حتى الآن على نظرية واحد وتفسير علمي دقيق لانكشاف هذه المياه بلون الحليب في مساحات واسعة من بحار العالم، ولكنني أستطيع أن أُلخص ما توصل إليه العلماء حتى اليوم في النقاط التالية:

أولاً: هذه الظاهرة حقيقة واقعة لا يمكن تجاهلها، فوثقتها الصور الفضائية وأكدتها الدراسات الميدانية التي أَخذتْ عينات من هذه المياه البيضاء، كما أثبتت وجودها في مناطق واسعة من بحار العالم حول الكرة الأرضية برمتها.

ثانياً: هذه المناطق الملوثة تُضيء أثناء الليل مع حلول الظلام، ويمكن مشاهدة هذه الأنوار التي تنبعث منها عن طريق الأقمار الصناعية والزيارات الميدانية.

ثالثاً: هذه المياه البيضاء تحتوي على ملح كربونات الكالسيوم الأبيض اللون، كما تحتوي على نوع من الطحالب البيضاء التي نمت عليها البكتيريا بعد موتها وتحللها، فكونت مستعمرات كثيفة على سطحها تفرز الضوء الذي يراه الإنسان.

رابعاً: قد تكون هناك مجموعة من الأسباب تقف وراء هذه الظاهرة فتعمل بشكل تعاوني ومجموعي في انكشافها، مثل تلوث مياه البحر، والتغير المناخي ممثلاً في ارتفاع حرارة المياه، إضافة إلى التيارات البحرية التي قد ترفع جسيمات كربونات الكالسيوم العالقة في عمود إلى السطح.

 

والدراسات والأبحاث مازالت مستمرة للتعرف أكثر على أسرار وخفايا هذا اللغز المحير.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق