الجمعة، 31 ديسمبر 2021

وداعاً أيها البحر


قبل أن ننقل البحر إلى مثواه الأخير، وإلى حيث لا رجعة بعده، فنقرأ عليه آيات الرحمة والمغفرة، لا بد من وقفة تأمل وتدبر قصيرة نتذكر فيها مآثر هذا البحر ومحاسنه التي لا تعد ولا تحصى، ونبين للناس أجمع عطاء هذا البحر العظيم وثرواته المتجددة غير النابضة عبر الأجيال والقرون في كل دول العالم.

 

فكم من أممٍ وشعوب سابقة، ومازالت، تعيش على هبات البحر غير المتناهية، وتقتات من موارده الحية، وتتغذى على أسماكه الشهية، وتتزين من حليها، وتترفه وتتنزه في جنباته الغنية بالحياة، وتبني بيوتها من ترابه وأحجاره، وتحصل على قوت يومها من هذه النعم العظيمة والثرية. فهذا البحر كان دائماً مصدراً معطاءً يمكن الاعتماد عليه، ويمكن الثقة المستمرة بإنتاجه وجُوده وكرمه على بني البشر، فقد حقق الأمن الغذائي لمجتمعات كثيرة اعتمدت عليه كلياً لقرون طويلة من الزمن.  

 

وقبل أن يلقى جسد البحر الثرى فندفنه تحت التراب، لا بد من أن نسترجع ونتذكر أسباب بلوغ البحر إلى هذه المرحلة الحرجة والكارثية التي أودت بحياته، وجعلته جسداً هامداً خاوياً على عروشه بدون روح وحياة عبر العقود الماضية.

 

فالبحر لم يصل إلى هذه الحالة المأساوية فقط بعد سنوات قليلة من العناء والتعدي على حرمات أعضاء جسده، ولم يبلغ هذه المرحلة السيئة بعد مرضٍ واحد بسيط انكشف على صحته، وإنما بلغ هذه الحالة بعد عقودٍ طويلة زادت عن الستين عاماً، وبعد أن أصابته الأسقام المتتالية والمتزايدة التي تراكمت وتجمعت مع الزمن على جسده، وانتشرت ونهشت في جميع أعضاء جسمه، فأضعفت مع الوقت قواه، وهزَّت قدراته الذاتية الكامنة على المقاومة والمواجهة والتغلب على كل هذه المخالفات الشديدة والمتلاحقة التي تغلغلت في جسده وفتت من عضده، رويداً رويداً، ويوماً بعد يوم.

 

فمن أخطر الممارسات التي هددت الأمن البحري وسلامة الثروة السمكية، ومازالت حتى يومنا هذا، وستستمر في المستقبل المنظور، هي عمليات الحفر من جهة لاستخراج الرمل من البحر، ودفن السواحل البحرية من جهةٍ أخرى. فأما حفر البحر فيُعد علمياً وواقعياً ولا يحتاج إلى الدليل والدراسات تدميراً لموقع الحفر والمناطق القريبة التي تحيط به. فالحفر يغير كلياً من هوية وخصوصية البيئة في تلك المنطقة، ويقضي على كل كائنٍ حي نباتي، أو حيواني يعيش في تلك المنطقة، أو المواقع المجاورة لها، كما أن هذه الأتربة الدقيقة الصغيرة الحجم التي تنتج عن الحفر تنتشر مسافة طويلة في البحر فتُعكر من صفاء الماء وجودته، وتفسد نقاوته وجماله، وعلاوة على ذلك كله فإن هذه الأتربة الدقيقة الصغيرة الحجم تنتقل إلى أعضاء أجسام الأسماك فتمنعها من التنفس وقد تموت نتيجة لذلك.

 

وفي المقابل فإن عمليات الدفان تقضي كلياً، وبدون رجعة على البيئة البحرية المدفونة، فتدمر كل من عليها ويسكن فيها من كائنات حية صغيرة أو كبيرة، نباتية أو حيوانية، أي أنها عملية تدمير شامل لذلك الموقع البحري. كما أن عمليات الدفن عادة ما تتم على السواحل المعروفة ببيئات المد والجزر، والتي تعد من أكثر المناطق الساحلية إنتاجاً وعطاءً، إذ تعيش فيها الكائنات الحية التي تُعتبر الخط الأول في السلسلة الغذائية البحرية، فانتهاء هذه الكائنات والقضاء عليها يعني الإضرار المباشر بالكائنات الأخرى التي تعيش عليها وتعتمد عليها في دورة حياتها، وبخاصة الأسماك التجارية التي نتغذى عليها.  

 

ومن الأمراض الأخرى التي نزلت على البيئة البحرية منذ سنوات طويلة، وإن خفَّتْ الآن بعض الشيء، هي صرف مياه المجاري في المناطق الساحلية، مما أدى إلى انكشاف مستنقعات آسنة تحت البحر من التربة التي اختلطت بحمأة مياه المجاري التي ترسبت مع الزمن في قاع البحر، إضافة إلى التدهور الشديد في نوعية مياه البحر وانكشاف ظاهرة موت الأسماك في أشهر الصيف الحارة. كذلك هناك التهديد القادم من صرف مياه المصانع التي لا تتطابق مع المعايير والمواصفات الخاصة بها في البيئات الساحلية.

 

كذلك من العلل المزمنة التي انتشرت وتوغلت في أعماق جسد الثروة السمكية هي الصيد الجائر والمفرط للأسماك والربيان وباستخدام كافة الوسائل والمعدات الشرعية وغير الشرعية ولسنوات طويلة من الزمن، مما أثر على استدامة عطاء مصائد الأسماك، وخفضت من أعداها ونوعيتها ووفرتها.

 

واليوم نقرأ عن تهديدات جديدة محتملة قد تزيد من تهالك هذا الجسد البحري، وترفع من درجة معاناته ونقله أسرع إلى مثواه الأخير، حيث أعلنت البحرين في 24 نوفمبر من العام الجاري عن إعداد مخططات عامة لبناء خمسة مدن جديدة تزيد مساحة المناطق التعميرية بنسبة تفوق 60%، وكل هذه المدن تمس البيئة البحرية بالسوء عن قريبٍ أو بعيد، وتتلف جسده المتهاوي بشكلٍ مباشر أو غير مباشر. فمنها منطقة جزيرة سهيلة شمال غرب المملكة بمساحة 62 كيلومتراً مربعاً، ومنها المخطط الخاص بمحمية جزر حوار البحرية ومنطقة خليج البحرين، إضافة إلى منطقة فشت الجارم، حيث تبلغ المساحة المطورة على هذا الفشت المثمر 182 كيلومتراً مربعاً.

 

وأخيراً وهي الأخطر على البحر وثروته السمكية المحمية البحرية المعروفة إقليمياً، والتي تُعد رئة الثروة السمكية لمملكة البحرين وأكثرها عطاءً وإنتاجاً وثراءً حسب رأي جميع الصيادين، "محمية فشت العظم"، حيث ستكون مساحة المنطقة قرابة مائة كيلومتر مربع.

 

فكل هذه المشاريع العملاقة التي ستقام على البحر، أو على أعتاب وأبواب البيئة البحرية، مهما أخذنا في الاعتبار البعد البيئي، ومهما فعلنا وخططنا من إجراءات لدرء المفاسد على الأمن السمكي والبيئات التي تعيش فيها، فلن ننجح في ذلك، ولن نفلح كلياً في تجنب المخاطر على البيئة البحرية والحياة فيها، سواء من ناحية انكماش مساحة البحر، أو من ناحية تدهور البيئة البحرية والثروة السمكية. فبناء هذه المخططات العظيمة تصاحبها عمليات حفر ودفن للبحر في مواقع ومناطق واسعة، ولذلك فطبيعية عملية بناء هذه الجزر والفشوت وتطويرها ستُحدث أضراراً جسيمة وعميقة ومستدامة لا يمكن تفاديها أو تخفيفها، وكل هذه العمليات ستزيد من حدة المرض المزمن الذي يعاني منه البحر منذ أكثر من ستة عقود، إضافة إلى نقطة مهمةً جداً قد نغفل عنها مع خضم بناء هذه المدن، وهي تأثيرات إنشاء هذه المدن الضخمة القريبة من السواحل البحرية على المكتسبات التنموية البحرية القائمة حالياً من شواطئ عامة للمواطنين، وفنادق ساحلية، ومنتجعات بحرية كبيرة تعتمد في وجودها أساساً على جودة وصفاء مياه البحر في هذه السواحل.

 

وخلاصة لا أكون متشائماً إذا بدأتُ من الآن مراسم دفن البحر، وقلتُ وداعاً أيها البحر العزيز.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق