الثلاثاء، 21 ديسمبر 2021

ثورة السيارات الكهربائية

  

إنها ليست ثورة قامت بها كالعادة الشعوب ضد الحكام، وإنما هي ثورة شاملة وقعت على إحدى وسائل المواصلات، وبالتحديد ثورة عارمة ضد السيارات التي تشتغل بالوقود الأحفوري، وبخاصة الديزل والجازولين والغاز الطبيعي. فجاءت الثورة هذه المرة من فوق الهرم ونزلت إلى أسفله وإلى القاعدة، فهي ثورة قامت بها الدول والحكومات، ثم دعمتها وساندتها ونفذتها الشركات والمصانع المنتجة للسيارات، وأخيراً وصلت إلى أسفل الهرم وإلى القاعدة الشعبية العريضة، فبدأت الشعوب في استخدامها واستعمالها بدلاً من الوسائل الأخرى.

 

وفي الحقيقة فإن بذور هذه الثورة الطيبة غُرست في المجتمع الدولي قبل نحو ثلاثين عاماً، وبالتحديد منذ يوليو من عام 1992، في مؤتمر قمة الأرض التاريخي أو مؤتمر البيئة والتنمية الذي عقد في ري دي جانيرو، والذي تمخضت عنه وثيقة هامة جداً هي "جدول أعمال القرن الحادي والعشرين" أو ما يُطلق عليه "أجندة 21".

 

وهذه الوثيقة الطوعية غير الملزمة للدول قدَّمت حزمة من السياسات التي تحقق التنمية المستدامة للدول، وتُعد خارطة طريق عملية وخطة تنفيذية على المستوى الدولي والإقليمي والوطني في مجال خفض ومنع التأثيرات الجانبية للأنشطة التنموية للإنسان في جميع القطاعات على البيئة والحياة الفطرية. ومن هذه الأنشطة والبرامج التنموية التي تطرقت إليها الوثيقة خطة تنفيذية في مجال المواصلات والنقل، حيث خُصصت عدة فصول تحت مسمى "النقل المستدام" بمفهومه الشامل والمتكامل، والذي يتضمن عدة سياسات، وأدوات، ووسائل حديثة من بينها التحول تدريجياً إلى السيارات الكهربائية، وتجنب استخدام الوقود الأحفوري الملوث للبيئة والمسبب لمشكلة التغير المناخي وارتفاع حرارة الأرض.

 

وبعد زرع هذه البذرة الأولى التي مهدت الطريق لقيام ثورة السيارات الكهربائية، قامت بعض دول العالم، والتكتلات الدولية، والمنظمات العالمية المعنية برعاية هذه البذرة وريها بالماء الصالح المستدام، فوضعت السياسات، وحددت الاستراتيجيات العامة للبدء عملياً في تنفيذ هذه الثورة، والانتقال من مرحلة السيارات الملوثة للبيئة والتي تعمل بوقود ناضب وغير متجدد وملوث للهواء إلى سيارات الطاقة الكهربائية التي لا تنبعث عنها أية ملوثات. فعلى سبيل المثال، أطلقت القارة الأوروبية في يوليو 2017 رؤية واضحة وسياسة حازمة تتمثل في حظر بيع واستخدام السيارات التي تعمل بالديزل والجازولين بحلول عام 2040، والتحول كلياً إلى السيارات الكهربائية كبديل صديق للبيئة. وبعد القارة الأوروبية، انتقلت عدوى الثورة إلى القارة الأمريكية، وبالتحديد الولايات المتحدة الأمريكية، حيث دشن بايدن سياسته الخاصة بمكافحة التغير المناخي من خلال تعميم إنتاج واستخدام السيارات الكهربائية على مستوى الولايات الأمريكية عندما زار في 18 مايو 2021 مركز فورد روج للسيارات الكهربائية(Ford Rouge Electric Vehicle Center)في مدينة ديربورن(Dearborn) بالقرب من ديترويت، العاصمة التاريخية لصناعة السيارات الأمريكية. وقال في الكلمة التي ألقاها أثناء الزيارة:"مستقبل صناعة السيارات هو الكهرباء، فليس هناك رجعة"، وأضاف قائلاً حول الإنتاج العالمي للسيارات الكهربائية: "الآن الصين تقود السباق... ولكنها لن تفوز بالسباق". فبهذه الزيارة الخاطفة رسم بايدن استراتيجية طويلة المدى، ووضع سياسة عامة ملخصها أن المستقبل سيكون للسيارات الكهربائية.

 

فهذه السياسات على مستوى الأمم المتحدة، وعلى مستوى الدول المتقدمة العظمى، شكلت المظلة الواقية والداعمة، والغطاء الآمن للشركات المنتجة للسيارات في كل انحاء العالم لتقبل هذه الثورة الجديدة والإنخراط فيها، والاستثمار بقوة في تنفيذ خطط التحول المتمثلة في الانتقال من سيارات الوقود الأحفوري إلى إنتاج السيارات الكهربائية.

 

وهناك أمثلة كثيرة يمكن تقديمها حول السباق المحتدم والشديد بين الدول والشركات العملاقة المنتجة للسيارات في كل أنحاء العالم لنزع موقع الصدارة والريادة في هذه الثورة الدولية، وهذا السباق أخذ ثلاثة مسارات متوازية ومتلازمة. أما المسار الأول فهو السيطرة على الموارد والثروات الطبيعية الموجودة في دول العالم والتي تخزن في أرضها العناصر الأولية التي تتكون منها بطارية السيارات الكهربائية، وهي بالتحديد الكوبالت، والليثيوم، والنحاس، والنيكل وغيرها من محتويات البطارية، ولمزيد من المعلومات حول حدة هذا السباق العالمي للسيطرة على هذه الموارد الطبيعية، يمكن الرجوع إلى مقالي المنشور في صحيفة أخبار الخليج في الثلاثين من نوفمبر 2021 تحت عنوان: "الصراع على موارد الدول النامية لن ينتهي". وأما المسار الثاني فيتضح في المنافسة القوية في سرعة إنشاء المصانع الخاصة بإنتاج بطاريات السيارات بكميات كبيرة وأسعار تنافسية منخفضة، بهدف احتكار إنتاج البطاريات اللازمة لتشغيل الملايين من السيارات الكهربائية. وأما الثالث والأخير فيتمثل في السباق لتحقيق التقدم الدولي في منافسة إنتاج السيارات والسيطرة على سوقها في جميع أرجاء العالم.

 

وهناك الكثير من الأمثلة التي أستطيع تقديمها لأبين لكم واقعية ثورة السيارات الكهربائية، وتسابق الشركات في تبنيها والسير في مواكبها. فقد نُشر في البلومبيرج في 13 ديسمبر 2021 بأن فولكس واجن التي تمتلك عدة أنواع من السيارات، ستستثمر بمبلغ وقدره 2.3 بليون دولار في إنشاء مصنعٍ مستقل وخاص بإنتاج البطاريات في مدينة(Salzgitter)الألمانية، كما جاء أيضاً في البلومبيرج في 29 نوفمبر 2021 بأن شركة نيسان اليابانية ستضخ 17.6 بليون دولار تحت شعار "طموح نيسان 2030"، حيث ستقوم بإنشاء مصانع للبطاريات وأخرى للسيارات الكهربائية. كما أعلنت أكبر شركة مصنعة للسيارات، تويوتا بأنها ستنفق 35.2 بليون دولار، حسب المنشور في المحطة الإخبارية سي إن إن في 14 ديسمبر 2021، من أجل اللحاق بالمتسابقين الآخرين، وستدخل الشركة في مسارين فقط من المسارات الثلاثة التي ذكرتها وهي تطوير وإنشاء مصانع للبطاريات بمبلغ 1.3 بليون دولار في مدينة ليبرتي بولاية نورث كالوراينا الأمريكية، إضافة إلى المسار الثاني وهو إنفاق مبلغ 3.4 بليون دولار على إنتاج السيارات الكهربائية، حيث تعتزم بيع 3.5 مليون سيارة سنوياً بحلول عام 2030.

 

كذلك أعلن الرئيس التنفيذي لشركة روز رويس تورستين مولر أوتفوس(Torsten Müller-Ötvös) في 29 سبتمبر 2021 عن تقديم أول سيارة كهربائية تسمى(Spectre)، كما أضاف بأن جميع سياراتها ستكون كهربائية بحلول عام 2030. كما أعلنت شركة فورد الأمريكية في 28 سبتمبر 2021 عن إنشاء أربعة مصانع، ثلاثة منها لإنتاج البطاريات والرابعة لإنتاج الشاحنات بكلفة 11.4 بليون دولار، حسب ما ورد في صحيفة النيويورك تايمس. وفي الوقت نفسه ستنفق شركة جنرال موتورز 3 بلايين دولار لإنتاج السيارات الكهربائية، حسب صحيفة الوال ستريت جورنال في 11 سبتمبر 2021، كما أكدت الشركة عن سياستها المستقبلية في التخلص من سيارات الجازولين والديزل بحلول عام 2035. كذلك ستتحول مجموعة ديملر للسيارات والمصنعة للمرسيدس كلياً إلى السيارات الكهربائية بحلول عام 2030، أي قبل الموعد المحدد للمفوضية الأوروبية بخمس سنوات، إضافة إلى الاستثمار بمبلغ قرابة 47 بليون دولار لتحقيق هذا الهدف، وبناء 8 مصانع للبطاريات.

 

فمن الواضح حسب المعلومات الموثقة المقدمة من الدول وشركات إنتاج السيارات بأنها قد اعتمدت ثورة السيارات الكهربائية، وتعمل بكل جد وقوة، وتحت ضغط شديد للمنافسة على سوق السيارات الكهربائية وتحقيق الريادة والسبق لاحتكار هذه البضاعة الجديدة.

 

وأما الدول العربية فهي كالعادة خارج السباق كلياً، فهي بالأساس لم تشترك فيه لعدم قدرتها على المنافسة، وعدم توفر الإمكانات والخبرات الفنية والتقنية والبنية التحتية اللازمة للمشاركة، ولذلك فإن آثار هذه الثورة ستنزل عليها وعلى مستوى الشعوب فقط، فنحن أمة في الغالب نستهلك وقليلاً ما ننتج. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق