الجمعة، 24 ديسمبر 2021

مأزق الدول النفطية


لخص رئيس وزراء أستراليا سكوت موريسن(Scott Morrison) في 26 أكتوبر من العام الجاري المأزق الذي تعيشه وتعاني منه الدول التي تتمتع بموارد ثرية وضخمة من الوقود الأحفوري، سواء أكان الفحم، أو النفط، أو الغاز الطبيعي، حيث قال لرجال الإعلام: "الأستراليون يريدون مواجهة التغير المناخي. إنهم يتخذون الخطوات اللازمة لمكافحة التغير المناخي، ولكنهم أيضاً يعملون على حماية وظائفهم وحياتهم. وهم أيضاً يعملون على خفض كلفة الحياة". وأضاف قائلاً: "أنا أيضاً أعمل على حماية نمط الحياة الأسترالية، خاصة في الأرياف والمناطق الإقليمية".

 

ففي هذه التصريحات أفصح رئيس الوزراء الأسترالي وبكل وضوح رؤيته ورؤية جميع حكومات الدول الصناعية المتقدمة بالنسبة لقضية التغير المناخي خاصة، وهموم وشؤون البيئة عامة، حيث وضع أمام الجميع بصورةٍ لا لبس فيها سُلم الأولويات في حكومته، والتي تبدأ أولاً بتحقيق الانتعاش الاقتصادي وازدهار وتوفير الوظائف للجميع، إضافة إلى تحقيق هدف الحياة الكريمة لكافة المواطنين وتحسين معيشتهم اليومية، ثم بعد أن يتم الوصول إلى هذه الأهداف الاقتصادية الاجتماعية، تأتي البيئة في الدرجة الثالثة من الاهتمام والرعاية. وهذا يؤكد لي بأن الدول الصناعية المتقدمة لا تهتم بالبيئة وقضاياها المختلفة إلا بعد أن تنمو وتزدهر الحالة الاقتصادية للبلاد والعباد، فالمصالح الاقتصادية فوق جميع المصالح الأخرى.

وهذه السياسة التي تنتهجها هذه الدول المتطورة ليست جديدة، وإنما هي نهج الحياة، واستراتيجيات معظم الحكومات على مدى قرنين من الزمان. فلو رجعنا إلى الوراء قليلاً، لوجدنا بأن سياسة الدول الصناعية المتقدمة والغنية كانت سياسة "اللاسياسة"، أو سياسة الجهل والعشوائية، والإفراط الأعمى في استهلاك الموارد والثروات الطبيعية، وعدم الاعتبار لأي شأن آخر غير النمو السريع وتحقيق الربح الكبير. وهذه السياسة المعوقة هي التي أوصلتنا إلى هذه الأوضاع البيئية الصحية المأساوية التي نقاسي منها اليوم، وهذه السياسة هي التي أورثتنا هذه الكوارث البيئية والمناخية الدولية العقيمة مثل كارثة المطر الحمضي والأسود، والكارثة العقيمة المتمثلة في انخفاض غاز الأوزون في طبقة الأوزون التي تحمي الكرة الأرضية ومن عليها من كائنات من الأشعة فوق البنفسجية القاتلة، إضافة إلى التدهور النوعي والكمي الشديدين في التنوع الإحيائي النباتي والحيواني، وأخيراً الطامة الكبرى المتمثلة في حدوث التغير المناخي لكوكبنا ورفع درجة حرارته وإصابته بالحمى المزمنة.

وهذه السياسة القديمة مازالت تُتبع، ولكن تحت مسميات حديثة وحضارية، وباستخدام مصطلحات علمية جميلة وجذابة، ولكنها خاوية من المضمون التنفيذي الجذري، ولذلك أتمنى أن لا تخدعنا حالياً الدول الصناعية المتقدمة بشعاراتها البراقة، وتصريحاتها المنمقة، ووعودها الكاذبة، وتعهداتها الكثيرة اللامعة، فهي مازالت إلى درجةٍ كبيرة تمارس السياسة نفسها، ولكن بشيء من الاعتدال وعدم التفريط، فهي مازالت تُغلب المصلحة التنموية الاقتصادية لبلادها على المصالح البيئية وصحة الإنسانية، فإذا ازدهرت المصالح الاقتصادية ونمت واستقرت، فعندها فقط تأخذ بالمصالح البيئية، وتدَّعي أمام العالم وتفتخر بأنها تحافظ على البيئة وتحمي مواردها الطبيعية. فمهما صرخت الدول الصناعية والغربية خاصة منها، بأنها ملتزمة الآن بحماية البيئة وخفض انبعاث الملوثات بنسبة محددة، فلا يمكن الاعتماد على هذه الوعود والالتزامات، فحكومات هذه الدول الديمقراطية تتغير بين عشيةٍ أو ضحاها، وتبعاً لذلك تتغير السياسات والاستراتيجيات والأولويات جذرياً، وتُسحب التعهدات والوعود السابقة كلياً، كما حدث بالفعل في الولايات المتحدة الأمريكية حيث انسحبت أولاً من بروتوكول كيوتو لعام 1997 بعد أن وقعت عليها، ثم ضربت أرض الحائط اتفاقية باريس 2015 عندما وقع عليها أوباما وجاء ترمب فألغاها وانسحب منها، وحدث ما يشبه هذه المشاهد في أستراليا أيضاً.

وبناءً عليه فإنني أُقدم تصوري المتزن والمستدام بيئياً واقتصادياً واجتماعياً حول التعامل مع هذا المأزق الجديد، وكيفية إدارة ملف التغير المناخي والقضايا البيئية الأخرى للدول التي حباها الله سبحانه وتعالى، مثل دول الخليج، بالثروات الطبيعية من مصادر الوقود الأحفوري، والتي وُضعت الآن في قفص الاتهام، وتحارب بشراسة لدورها الرئيس في وقوع ظاهرة التغير المناخي. وهذا التصور أُلخصه في ما يلي:

أولاً: يجب تشكيل جماعات ضغط من الدول التي تشترك مع همومنا ومصالحنا في استغلال ثرواتها الطبيعية لرفع الدخل القومي ومواصلة الأعمال التنموية وتحسين مستوى حياة الشعوب، سواء أكانت من موارد الغابات الكثيفة كالبرازيل وإندونيسيا، أو ثروة الفحم والغاز الطبيعي كأستراليا وروسيا، أو الشركات العملاقة متعددة الجنسيات التي لها حصة في التعامل مع هذه الثروات، وبخاصة الوقود الأحفوري، أو الدول التي لا تستطيع أن تستغني كلياً عن استخدام مصادر الوقود الأحفوري كالصين والهند واليابان وغيرها.

ثانياً: العمل على خفض انبعاث الملوثات من مصادرها بشكلٍ عام، والملوثات المتهمة بنزول التغير المناخي على كوكبنا بشكلٍ خاص، وبالتحديد غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان، وهذا الإجراء يجعلنا نسير مع قطار الاتجاهات الدولية حول خفض الانبعاثات المناخية وتحقيق أهدافنا في بلوغ الحياد الكربوني بعد سنوات، إضافة إلى تخفيف الضغوط الدولية الشديدة التي تمارس علينا، وبدون الحاجة إلى التوقف عن استغلال ثرواتنا المخزنة في أراضينا. وهناك عدة عمليات يمكن القيام بها لتحقيق هدف خفض الانبعاثات، منها رفع فاعلية تشغيل كافة مصانعنا من جهة والعمل على معالجة الملوثات والتحكم فيها قبل انبعاثها إلى الهواء الجوي من جهة أخرى ومنع تسربها إلى الهواء الجوي، ومنها أيضاً حبس غاز ثاني أكسيد الكربون(carbon capture) المنبعث من المصانع ثم تخزينه، أو استعماله كمادة خام في إنتاج المواد الكيميائية. كذلك من الضروري رفع درجة التوعية على كافة المستويات، بدءاً بالوزارات الحكومية ثم عامة الشعب على ترشيد استهلاك كافة مصادر الطاقة من أجل خفض الانبعاث من الأجهزة الحكومية، والمؤسسات الخاصة والأفراد.

ثالثاً: تنويع مصادر الطاقة لتوليد الكهرباء وتشغيل المصانع في بلادنا حتى لا نعتمد كلياً على مصدر واحد للطاقة، وفي الوقت نفسه نسير تدريجياً ولو ببطء نحو طريق التخلص من الوقود الأحفوري عندما يحين الوقت المناسب دون الإضرار بمصالحنا التنموية الاقتصادية والاجتماعية. وهناك عدة مصادر متجددة ونظيفة ولا تنبعث عنها الملوثات كالطاقة الشمسية وطاقة الرياح. وعلاوة على ذلك فهناك ما يُطلق عليه بوقود المستقبل غير الملوث للبيئة، أو الوقود الأخضر، وهو الهيدروجين الذي له تطبيقات متعددة، مثل تشغيل محطات توليد الكهرباء والمصانع والسيارات والطائرات، إضافة إلى إنتاج المواد الكيميائية الأخرى.

رابعاً: التوجه نحو تنويع وقود السيارات، وبالتحديد استخدام السيارات الكهربائية جنباً إلى جنب مع سيارات الديزل والجازولين حتى نتمكن عملياً ومع الزمن خفض استخدام السيارات التي تسير بالوقود الأحفوري. 

خامساً: العمل على زيادة المساحات الخضراء بزراعة أشجار تتناسب مع ظروف بيئتنا الحارة من جهة وشح المياه من جهة أخرى، فهذه الأشجار لها القدرة على امتصاص الملوثات عامة، وملوثات المناخ خاصة، وبالتالي تمنع تراكمها في الغلاف الجوي وإحداث التغير المناخي.

وختاماً فإننا نقف أمام معادلة معقدة ومتشابكة ولا يمكن تحقيقها بطرح حلٍ واحدٍ فقط، فالتغير المناخي واقع وتداعياته مشهودة ولا بد من العمل جميعاً، وبخاصة من الدول الصناعية المتقدمة التي تسببت على مدى قرنين في وقوعه، فعليها تقع المسؤولية الأخلاقية التاريخية في المساهمة إدارياً ومالياً وتقنياً في الحل، كما أن علينا مسؤولية أيضاً في تبني الحلول الواقعية والعملية مع استمرار البرامج التنموية في دولنا ورفع المستوى الاقتصادي والاجتماعي لشعوبنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق