الأحد، 19 ديسمبر 2021

 

وأخيراً وصل التغير المناخي إلى مجلس الأمن الدولي

منذ أكثر من عشر سنوات وأنا أُتابع عن كثب الدراسات والأبحاث العلمية والتقارير المنشورة في دول العالم حول العلاقة بين تداعيات التغير المناخي المتمثلة في سخونة الأرض والموجات الحرارية، وارتفاع مستوى سطح البحر، والأعاصير والفيضانات والبعد الأمني، سواء على المستوى القومي في الدولة الواحدة، أو على المستويين الإقليمي والدولي.

 

فالعلاقة بين التغير المناخي وتداعيته موثقة ومعروفة بالنسبة للبعد البيئي، والاقتصادي، والاجتماعي، والصحي منذ عدة عقود، وتتضح هذه العلاقة أكثر سنة بعد سنة، ولكن العلاقة بين التغير المناخي وأمن واستقرار الدول والسلم الدولي لم تكن واضحة لعدم وجود الدليل العلمي الدامغ، وقلة الدراسات التي تقدم وتؤكد انعكاسات التغير المناخي على حالة الاستقرار والأمن بمستوياتها المختلفة.

 

ولكن مع الزمن ومرور الوقت، وتفاقم وازدياد وتكرار وقوع الكثير من المظاهر المناخية المفرطة والشديدة التي لم تنزل من قبل بهذه الحدة في الكثير من دول العالم، كموجات الحر الشديدة وموجات البرد القارسة، وسقوط الفيضانات والأعاصير غير المألوفة في شدتها وتكرارها، إضافة إلى زيادة رقعة الغابات المحترقة والجفاف والقحط الشديدين، فكل هذه الكوارث المناخية التي نشهدها في السنوات القليلة الماضية وتأثيرها العظيم على البشر والبنية التحتية وهجرة الناس من هذه المناطق المنكوبة ونزوحهم إلى أماكن أكثر أمناً وسلامة، أشارت إلى العلماء والدارسين عن احتمال وجود علاقة قوية بين كل هذه الكوارث والتغير المناخي، وعلاقة كل ذلك بالأمن والاستقرار على كافة المستويات.    

 

فالمعادلة التي توصل إليها العلماء أن للتغير المناخي للكرة الأرضية برمتها تداعيات ومردودات سلبية خطيرة، وهذه التداعيات انعكست بشكل مباشر أو غير مباشر على الحالة المناخية لكوكبنا عامة، فولدت ظواهر وكوارث مناخية خارجة عن المألوف وتجاوزت الحد الطبيعي للدورات المناخية المعروفة عالمياً، مما كان لها التأثير المباشر على حياة الشعوب في شتى بقاع الأرض من ناحية أمنهم، وسلامتهم، واستقرارهم، بل وفي بعض الأحيان هذه الحالات المناخية التي نجم عنها القحط والتصحر أدت إلى نزاعات ووقوع أعمال عنف بين الجماعات المتنافسة من أجل الحصول على مصادر المياه والغذاء الشحيحة أصلاً.

 

وقد نَشرت الحكومة الأمريكية عدة تقارير استخباراتية لسبر غور هذه المعادلة، والتحقق من صحتها على أرض الواقع، والتأكد من عمق العلاقة بين التغير المناخي والأمن العام، ومنها ثلاثة تقارير نُشرت في 21 أكتوبر 2021 تقيم العلاقة بين التغير المناخي وأمن الدول واستقرارها على كافة المستويات القومية الأمريكية والدولية على حدٍ سواء. أما التقرير الأول فجاء تحت عنوان: "التغيرات المناخية والتحديات المتزايدة للأمن القومي للولايات المتحدة الأمريكية حتى عام 2040: تقديرات المخابرات القومية حول التغير المناخي"، وهذا التقرير صدر من مكتب مدير المخابرات القومية، ويعد الأول من نوعه حيث شارك فيه العديد من وكالات وأجهزة المخابرات الأمريكية وأجمعت على استنتاجات مشتركة. وجاء في ملخص التقرير بأن: "التغير المناخي له تأثر قوي وكبير على الدفاع والأمن القومي الأمريكي. فارتفاع حرارة الأرض والتغير في أنماط سقوط الأمطار، إضافة إلى زيادة أعداد أيام نزول الطقس المفرط في شدته وغير المتوقع بسبب التغير المناخي، يفاقم من المخاطر الحالية، ويشكل تحديات أمنية جديدة ومتنامية على المصالح الأمريكية". وأما التقرير الثاني فقد صدر من وزارة الدفاع تحت عنوان: "تقييم مخاطر المناخ"، حيث نشر وزير الدفاع لويد أوستن بياناً بمناسبة صدور التقرير قال فيه بأن: "التغير المناخي يمس كل أعمال هذه الوزارة، وهذا التهديد سيستمر في تداعياته على الأمن القومي الأمريكي"، كما قال: "التغير المناخي يبدل ويحول مضمون وصورة الاستراتيجيات للبيئة الأمنية، ويشكل تهديداً معقداً للولايات المتحدة الأمريكية والأمم حول العالم"، كذلك ختم بيانه قائلاً: "ومن أجل منع الحرب وحماية بلادنا، يجب على وزارة الدفاع معرفة طرق تأثير التغير المناخي على مهمات الوزارة، وخططها وامكاناتها".

 

ولذلك فإنني كتبتُ سبعة مقالات حول علاقة التغير المناخي بالأمن والاستقرار والسلم الدولي، ودعوتُ في هذه المقالات مجلس الأمن المختص بالأمن والسلم الدوليين إلى مناقشة هذه القضية الأمنية الدولية، ووضعها ضمن جدول أعماله. وقد تحققت هذه الأمنية في جلسة مجلس الأمن المنعقدة في 13 ديسمبر 2021 التي خُصصت لمناقشة مسودة مشروع القرار حول البعد الأمني للتغير المناخي، وتأثيراته على السلم والأمن الدوليين. وقد تبنت كل من إيرلندا والنيجر هذا القرار ورفعه إلى مجلس الأمن للتفاوض حوله ومناقشته، حيث أكد مشروع القرار إلى الحاجة إلى "مدخل شامل للأمم المتحدة لمواجهة التغير المناخي وتأثيراته"، كما جاء في مسودة القرار بأن تداعيات وتأثيرات التغير المناخي تقود إلى نزاعات اجتماعية..وتسهم في المخاطر المستقبلية لوقوع النزاعات وعدم الاستقرار، وتشكل مخاطر رئيسة للسلام والأمن والاستقرار الدولي". كذلك دعا القرار إلى ضم التغير المناخي مع العوامل الأخرى "المسببة للنزاعات، أو التي تفاقم المخاطر الأمنية" وأن تكون المعلومات المتعلقة بالبعد الأمني للتغير المناخي جزءاً رئيساً من استراتيجيات مجلس الأمن عند إدارة النزاعات الإقليمية والدولية، وعمليات حفظ السلام، إضافة على المهمات السياسية. وفي ختام القرار، دَعْوة للأمين العام للأمم المتحدة إلى تقديم تقرير خلال سنتين إلى المجلس "حول الأبعاد الأمنية للتأثيرات الضارة للتغير المناخي في الدول ذات العلاقة، أو الأقاليم المعنية، إضافة إلى التوصية في كيفية مواجهة المخاطر الأمنية المتعلقة بالمناخ".

 

ولكن مع الأسف بالرغم من موافقة 12 عضواً من أعضاء مجلس الأمن على القرار من بين 15 عضواً، إلا أن هذا القرار لم ير النور، وتم رفضه وإحالته إلى الأرشيف لسنوات قادمة قد تطول كثيراً، وذلك نتيجة لاستخدام روسيا التي هي من بين الدول الخمس الدائمة العضوية لحق النقض(الفيتو)، ومعارضة الهند، وامتناع الصين عن التصويت. وقد برَّر السفير الروسي فاسيلي نبنزيا(Vassily Nebenzia) موقف بلاده من القرار واستخدام الفيتو قائلاً بأن القرار المقترح يحول: "قضية علمية واقتصادية إلى مسألة سياسية"، كما أضاف بأن مثل هذا القرار يحرف ويحول اهتمام المجلس من المصادر والعوامل الرئيسة للنزاعات إلى تدخل الدول الغربية الثرية في شؤون الدول الأخرى لأسباب قد تكون غير واضحة. كما أفادت الهند والصين بأن قضية التغير المناخي من اختصاص منظمات الأمم المتحدة الأخرى ذات العلاقة، وبالتحديد الاتفاقية الإطارية حول التغير المناخي(Framework Convention on Climate Change)، وليس مجلس الأمن.

 

وبالرغم من عدم موافقة مجلس الأمن على القرار، إلا أن الوعي الدولي وعلى أعلى المستويات قد ارتفع كثيراً وتعمق حول علاقة التغير المناخي بالأمن والاستقرار على جميع المستويات، كما أن الشعور الدولي بأن تداعيات التغير المناخي تعد تهديداً واقعياً وحقيقياً على كوكبنا ومصيرنا المشترك قد زاد وتوثق ولأول مرة في أعلى جهة مختصة بالأمن والسلم الدوليين وهو مجلس الأمن. فكل هذا في حد ذاته يعتبر انتصاراً وانجازاً لم يسبق له من قبل، وربما في المستقبل سيقتنع باقي أعضاء المجلس بأن تهديدات التغير المناخي تمسهم أيضاً، وهي ليست وهمية ونظرية، أو لها مآرب أخرى خبيثة تستغلها بعض الدول لحاجة في نفسها.

 

هناك تعليق واحد:

  1. Casinos That Don't Pay Out On Casino Sites - Dr.MD
    Best Casino Bonuses, Codes & Reviews For Casinos That Don't Pay Out On Casino Sites. 광주광역 출장안마 We also offer 통영 출장샵 reviews of all casinos 문경 출장안마 that are accepting players 광주 출장마사지 based 정읍 출장샵 on

    ردحذف