الأحد، 12 ديسمبر 2021

اعتذار بعد 70 عاماً من وقوع الكارثة

في الثلاثين من نوفمبر 2021، قدَّم إبن المالك لواحدة من أكبر شركات الأدوية في العالم مايكل ويرتز(Michael Wirtz) الذي وهن عظمه واشتعل رأسه شيباً وبلغ من الكبر عتياً، حيث اجتاز أبواب الثمانين، اعتذاراً حاراً من برلين العاصمة الألمانية. وهذا الاعتذار الرسمي جاء لأول مرة نيابة عن كامل أفراد عائلته لكارثة إنسانية عَبَرتْ الحدود الجغرافية وحدود الأجيال المتلاحقة، فلم يشهد لها التاريخ مثيلاً، ووقعت مشاهدها العقيمة في الكثير من دول العالم قبل أكثر من سبعين عاماً، عندما غُرزت البذرة الخبيثة الأولى لهذه الطامة البشرية العصيبة في جسم الإنسان، وبالتحديد في جسد المرأة الحامل.

فقد قال هذا الشيخ الهرم في فيديو مُسجل بأنه يُعبر عن أسفه الشديد نيابة عن عائلته: "علينا أن نتكلم" عن هذه المأساة، كما أضاف قائلاً: "أَفعَلُ بكل انفتاح وبصفة رسمية أمام الشهود وأُعبر عن اعتذاري".

فماذا حدث في تلك الفترة الزمنية لكي يستحق أن نتذكره الآن، وبعد مرور عقودٍ طويلة من الزمن، وما حجم الخسائر البشرية والضحايا الذين سقطوا لكي يستأهل هذا الاعتذار العميق من العائلة المالكة لإنتاج العقاقير الطبية؟

فما وقع في تلك الفترة، قد يقع في أي زمن، وفي أي وقت، لأنه يحدث بسبب ممارسة بسيطة يقوم بها أي إنسان، وفي أي يوم، وهو أخذ الدواء لعلاج حالة مرضية محددة والقضاء على أعراضٍ حادة يشعر بها، ولكن دون العلم بالآثار الجانبية لهذا الدواء، ودون أن يدرك الإنسان المريض بأن هذا الدواء يشفيه من الأعراض التي يقاسي منها، ولكنه وبكل بساطة سيُسقطه في شرٍ أكبر منه، وألم أشد منه، وسينتقل هذا الألم والمعاناة إلى الأجيال اللاحقة من بعده.

فالشركة الألمانية جرونيثال(Grünenthal) بدأت بيع دواء الثالدوميد(Thalidomide) في الخمسينيات من القرن المنصرم على شكل كبسولة بيضاء اللون تحت أسماء مختلفة منها كونترجن (Contergan)، أو ديستافال(Distaval)، أو (Kevadon) كمهدىء ومسكن، ولعلاج الآلام التي تصيب المرأة الحامل صباحاً بعد الاستيقاظ من النوم، وكان فعلاً دواءً سحرياً أزال الصداع والمعاناة من النساء الحوامل، حتى أُطلق عليه بالدواء الأعجوبة(wonder drug)، ولكن لم يعلم أحد بأن الصداع الفعلي الدائم، والألم المزمن العقيم سينزل على المرأة، وعلى أسرتها من تبعات أخذ هذا الدواء، كالإجهاض وفقدان الجنين، أو موت الجنين بعد الولادة، أو ولادة الأجنة المشوهة خلْقياً والمعوقة جسدياً. وهذا ما وقع بالفعل لسنوات طويلة من المعاناة حتى تم الكشف عن العلاقة الوطيدة والأكيدة بين تناول هذا الدواء وسقوط حالات الإجهاض، أو ولادة أجنة ميتة، أو ولادة الأجنة المشوهة والمعوقة والغريبة، والتي مازلنا نراها في بعض الأحياء حتى يومنا هذا، مما اضطرت الشركة إلى سحب الدواء في نوفمبر 1961، أي قبل قرابة ستين عاماً.

ولكي تدركوا حجم الضرر الذي وقع على أجيال طويلة من البشر سقطوا ضحية لهذا الدواء، وبعضهم مازالوا أحياء يرزقون، ولكي تتحسسوا عن قرب معاناة الضحايا والأسر والأفراد الذين ولدوا مشوهين وآلامهم المستمرة الذي عانوا منها، أَنْقل لكم وصفاً حياً لهؤلاء الضحايا الذين وُلدوا معوقين ومشوهين في أعضاء أجسادهم من خلال تحليلٍ دقيق لصورهم الفوتوغرافية.   

فهناك، على سبيل المثال فقط من بين الآلاف من الصور الموثقة من 46 دولة متضررة، صورة لامرأة سليمة الوجه والشعر والعينين والأذنين والفم والأنف، ولكن عندما تنزل بعينيك قليلاً إلى أسفل الصورة، فستشاهد هنالك المأساة الحقيقة التي واجهتها هذه المرأة المسكينة طوال حياتها، سترى جزءاً غير مكتملِ النمو من الذِّراعَينْ فقط، ولكنهما ليس كذراع الإنسان الطبيعي العادي، فالذراع مشوه، ولا يبدو كذراع بشرٍ سليم، وفي نهاية الذراع، وبالتحديد إلى المـِرْفق تجد نمو بعض الأطراف الشاذة الغريبة التي لم أشهدها من قبل لا في إنسان ولا في حيوان، وأما اليدان فلا أثر لهما ولا وجود لهما كلياً، أي أن هذه المرأة عاشت طوال هذه السنوات الطويلة من عمرها فاقدة نعمة اليدين، فهي لا تتحسس الأشياء ولا تستطيع لمسها والإمساك بها أو الشعور بوجودها، ولا تتمكن من التواصل مع الناس عند الحديث معهم والتعبير باستخدام اليدين عند الكلام، كما حُرمت طوال سنوات حياتها من القيام بالأعمال اليدوية من الكتابة، والرسم، والطباعة على الكمبيوتر، واستخدام الهاتف النقال، وغيرها من الأدوات والوسائل الحديثة التي هي في متناول كل إنسانٍ صغيرٍ أو كبير.

وهناك صور كثيرة أخرى لولادة عشرات الآلاف من الأطفال المشوهين خَلْقِياً، وبأشكال نادرة لم يشهد لها الإنسان مثيلاً، فهناك الذين وُلِدَ بعضهم بلا أطرافٍ كُلياً، أو أطرافٍ ناقصة، كنصف رِجل، أو نصف يد، أو ولدوا بأيدٍ ناقصة تشبه بعض الحيوانات البحرية، أو ولدوا بتشوهات في العين، والأذن، والقلب، والكلى، والجهاز الهضمي هؤلاء الأطفال المعوقين جسديا.

فمثل هذه الكوارث العقيمة التي مرَّت على البشرية بسبب الآثار الجانبية للأدوية وطرحها في الأسواق للاستخدام الآدمي قبل إتمام إجراء الدراسات الشاملة والدقيقة، يجب أن لا تمر علينا مرور الكرام، ولحسن الحظ أن الشركة المتهمة بهذه الفضيحة النكراء اعترفت بخطئها واعتذرت للعالمين، حيث عبر الرئيس التنفيذي للشركة(Harald Stock) في الأول من سبتمبر 2012 عن أسفه لهذه المأساة، فقال في الذكرى الخمسين في المركز الرئيس للشركة في مدينة ستولبيرج(Stolberg) الألمانية: "ثالدومايد يُعد اليوم ودائماً جزءاً من تاريخ شركتنا"، كما أضاف قائلاً: "نحن لدينا مسؤولية وسنواجهها بانفتاح"، علاوة على ذلك فقد خلد ذكرى وقوع هذه الكارثة برفع الستار عن تمثال برونزي للفنان بونيفيتيس ستيربيرج (Bonifatius Stirnberg)في المدينة لطفلٍ من غير أطراف. كذلك فإن الحكومة البريطانية اعتذرت رسمياً لضحايا هذه الطامة البشرية الكبرى في يناير 2010، وعبَّرت عن "خالص أسفها" للسماح لاستعمال العقار في بريطانيا.

 

فمثل هذه الكوارث يجب أن لا تـَمر علينا دون أن نتعظ بها ونتعلم منها، فالأدوية شر لا بد منه، ومعظم الأدوية له آثار جانبية، بل وفي بعض الحالات يكون الضرر أشد وأقسى، فمن الضروري إذن على الشركات المصنعة للأدوية التعرف عن كثب وبدراسات ميدانية معمقة وشاملة على جميع هذه الآثار والأعراض الجانبية ونشر نتائجها للناس، وعدم تسويق الأدوية الجديدة قبل التأكد منها كلياً، وعلى دولنا من جانبها طلب الشهادات والإثباتات التي تؤكد سلامتها قبل السماح لها بالدخول في بلادنا.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق