الأربعاء، 29 ديسمبر 2021

المخلفات البلاستيكية تضر بصحتنا

أينما ألتفتْ، وأينما أنظر أرى مواد ومنتجات بلاستيكية لا نستغني عن استخدامها بشكلٍ يومي، وأينما أُشاهد أجد مخلفات بلاستيكية صغيرة وكبيرة الحجم ماثلة أمامي، فهي موجودة عن أيماننا، وعن شمائلنا، ومن أمامنا، ومن خلفنا، ومن فوقنا، ومن تحتنا، وهي حفرت مكانها بعمق في كل شبرٍ من كوكبنا، سواء أكان قريباً منا ومن الأنشطة البشرية، أو كان بعيداً في مواقع نائية لا تصل إليها أيدي البشر، فهي في أعالي السماء، وفي هواء الجبال الشاهقة الثلجية وفي أعلى قمة فوق سطح الأرض، وهي قمة إيفرست، أو قمة جبال فرنسا الشاهقة والنائية في منطقة بيرينيز(French Pyrenees) على ارتفاع 2877 متراً فوق سطح البحر، وهي أيضاً تكشف عن نفسها في أعماق المحيطات الباردة والمظلمة، وفي أعمق نقطة تحت سطح البحر في الخنادق البحرية المخيفة في المحيط الهادئ على عمق أكثر من عشرة كيلومترات تحت سطح البحر. كذلك فإن هذه المخلفات البلاستيكية الدقيقة والمتناهية في الصغر بشكلٍ خاص التي قطرها أصغر من 5 مليمترات لا تَبق ولا تمكث في مكونات البيئة فقط، من ماءٍ، وهواءٍ، وتربة، وإنما تتراكم فيها ومع الوقت تنتقل إلى أعضاء أجسامنا، وتدخل في أعماق خلايانا وأنسجتنا، وفي مواقع في أجسادنا لا يتخيلها الإنسان، ولا يتوقع وجودها أحد، مثل مشيمة المرأة الحامل وخلايا المخ، حيث تتراكم فيها يوماً بعد يوم.

 

وليس هذا من باب المبالغة، أو الوصف الأدبي غير العلمي وغير التجريبي لهذه الظاهرة الحديثة المتفاقمة والمتزايدة كل سنة، وإنما هي حقائق واقعية، أثبتتها الدراسة الميدانية التي أَخذتْ وجمعت عينات حية من كل هذا المواقع القريبة والبعيدة، ومن كل عناصر البيئة الحية وغير الحية، ومن أعضاء جسم الإنسان وإفرازات بدنه، وأكدت كل هذه الدراسات وجود هذه المخلفات البلاستيكية فيها. وسأُقدم لكم أمثلة قليلة جداً من بين الكم الهائل من الدراسات والأبحاث الميدانية التي عَثَرتْ على هذه المخلفات الميكروبلاستيكية الدقيقة جداً في الحجم، وكشفت عن تجذرها في كل مكان وفي كل أنحاء بيئتنا.

 

فهناك دراسة تحت عنوان: "انتقال وتراكم الميكروبلاستيك في التربة القاعية للمحيطات"، والمنشورة في مجلة علوم وتقنية البيئة(Environmental Science & Technology) في السادس من مارس 2020، حيث أكدت وجود المخلفات الميكروبلاستيكية في عينات التربة في قاع المحيطات، وانتقال هذه المخلفات إلى الكائنات الحية التي تعيش في تربة قاع البحر ثم إلى الكائنات الحية الأخرى التي تقتات عليها، حتى تصبح جزءاً من السلسلة الغذائية التي تنتهي بالإنسان. فقد أفادت دراسة أخرى تحت عنوان: "الأسماك تأكل الميكروبلاستيك" والمنشورة في مجلة علوم وتقنية البيئة في 23 يوليو 2021، بأن الأسماك بالفعل تستهلك هذه المخلفات البلاستيكية وتتراكم في أمعائها وخياشيمها والجهاز الهضمي بشكلٍ عام. كذلك هناك الكثير من الأبحاث التي أكدت على هذه الحقيقة وتعرض الإنسان للميكروبلاستيك من خلال استهلاك الكائنات البحرية الملوثة بها، ومنها البحث تحت عنوان: "الميكروبلاستيك في المأكولات البحرية: كم يأكل الإنسان منها؟، والمنشور في مجلة شؤون صحة البيئة(Environmental Health Perspective) في 17 مارس 2021، حيث أفادت الدراسة بأن هناك ما يقرب من 53864 قطعة من الميكروبلاستيك تدخل في جسم الإنسان عن طريق تناول المأكولات البحرية في كل سنة.

 

فبعد كل هذه الحقائق العلمية المتعلقة بانتشار وجود المخلفات البلاستيكية الكبيرة والصغيرة الحجم جداً في بيئتنا، لا بد من أن نسأل أنفسنا السؤال المشروع، والذي بدأ فعلاً العلماء في طرحه ومحاولة سبر غور تفاصيله وأبعاده، وهو هل هذه المخلفات البلاستيكية الموجودة في البر والبحر والجو وفي أعالي السماء وأعماق البحار الباردة المظلمة وفي الكائنات الحية وفي جسم الإنسان تؤثر على الإنسان نفسه، وتهدد أمنه الصحي على المدى القريب والبعيد فتسقطه في شر الأمراض الغريبة والغامضة التي قد لا يعرفها الطب الحديث؟

فهذا السؤال الآن هو الشغل الشاغل للعلماء، حيث بدأت الدراسات العلمية التي تحاول الإجابة عن هذا السؤال المثير أن ترى النور، وتقدم جزءاً من الإجابة عنه. فعلى سبيل المثال نُشرت دراسة في مجلة "رسائل علوم وتقنية البيئة" في 22 سبتمبر 2021 عنوانها: "مركبات ميكروبلاستيك البولي إيثيلين في براز الرضع والبالغين"، حيث قامت الدراسة بقياس تركيز بعض المخلفات البلاستيكية مثل البولي إيثيلين تربثليت والبولي كربونات (polyethylene terephthalate (PET) and polycarbonate)، وأكدت وجود هذه المخلفات البلاستيكية في براز الجنين فور ولادته، وفي الأطفال الرضع، وفي البالغين، مما يؤكد تعرض كل إنسان، مهما كان عمره للبلاستيك وانتقاله إلى أعضاء جسمه، فمنها ما يتراكم في الجسم ويسبب مشكلات صحية مزمنة، ومنها ما يخرج مع البراز. وهذه المخلفات البلاستيكية التي تتراكم في أعضاء الجسم، كالأمعاء تسبب التهابات وآلام مزمنة وحادة، استناداً إلى الدراسة المنشورة في مجلة علوم وتقنية البيئة في 22 ديسمبر 2021 تحت عنوان: "تحليل الميكروبلاستيك في براز الإنسان يؤكد العلاقة بين الميكروبلاستيك في البراز ومرض التهاب الأمعاء". وقد أفادت الدراسة بعد تحليل براز المرضى المصابين بالتهابات في الأمعاء(inflammatory bowel disease (IBD)) بأن تركيز المخلفات الميكروبلاستيكية في براز المرضى بلغ 41.8 قطعة من الميكروبلاستيك في الجرام من الوزن الجاف من البراز، وهذا التركيز أعلى بكثير، أو ما يساوي ضعف التركيز الموجود في الأصحاء وهو 28، وقد خلصت الدراسة إلى أن هناك علاقة بين حدة المرض واشتداد الألم وارتفاع نسبة المخلفات الميكروبلاستيكية في الجسم.

وعلاوة على هذا التأثير الصحي لدخول وتراكم المخلفات البلاستيكية في أعضاء أبداننا، فإن هناك دراسة ثانية أفادت بأنها تؤثر على خلايا الجسم، وهذه الدراسة منشورة في مجلة(المواد الخطرة)( Journal of Hazardous Materials) في 24 نوفمبر 2021، تحت عنوان: "حصر سريع للتأثيرات السامة عند التعرض للميكروبلاستيك في خلايا الإنسان ". وقد توصلت الدراسة إلى استنتاجٍ خطير ومهم جداً هو أن المخلفات البلاستيكية المتناهية في الصغر، سواء أكانت ميكروبلاستيكية أو نانوبلاستيكية(القطر أصغر من 100 نانومتر)، فإنها تدخل في الدورة الدموية في جسم الإنسان، ثم تنتقل إلى الخلايا وتغزوها، فإما أن تتلف جدار الخلايا وتؤدي إلى موتها، أو أن تصيبها بالحساسية والالتهابات المزمنة والأمراض المستعصية الجديدة. وهناك دراسة أولية نُشرت في مجلة شؤون صحة البيئة حول تأثيرات الميكروبلاستيك على كلية الإنسان في السادس من مايو 2021، حيث أشارت إلى أن المخلفات الميكروبلاستيكية من نوع البولي ستيرين(polystyrene) تؤثر على عمل ووظيفة الكلية، وتتعرض الإنسان لأمراض الكلية المزمنة.

ولذلك فمن الواضح الآن بأن خطورة المخلفات البلاستيكية لا تكمن فقط في استفحال وجودها في جميع مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، ولكن خطورتها تتمثل في تهديداتها الخفية لصحة الجنين في بطن أمه، وسلامة الأطفال، والشباب، والشيوخ، فالجميع سواسية أمام تهديدات المخلفات البلاستيكية، صغيرة كانت في حجمها، أم كبيرة، وهذه هي الطامة الكبرى القادمة لا محالة.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق