الخميس، 5 نوفمبر 2020

الاعتراف بالذنب

لأول مرة أعرف بأن سوء استخدام أحد أنواع الأدوية الذي كان يعطى لمن يعاني من آلام مزمنة، قد تحول إلى وقودٍ فاعل لإشعال فتيل أكبر وباء صحي تعاني منه الولايات المتحدة الأمريكية لأكثر من ثلاثين عاماً، وهو وباء الإدمان على المخدرات.

 

فلم أكن أتصور قط، ولم يخطر على بالي بأن مثل هذا الدواء "البريء" المسكن للألم والمهدئ لمعاناة الجسد والمعروف بأوكسي كونتين(OxyContin)، سيصبح شراً كامناً ومستفحلاً في أعماق المجتمع الأمريكي برمته، وسيحصد أرواح الملايين من الشعب الأمريكي بين ميتٍ وبين مريض مرضاً مستعصياً لا يُرجى شفاؤه، بل وسيسبب للكثير من أفراد المجتمع آلاماً نفسية، ومعاناة أسرية عصيبة، ومشكلات اجتماعية لا تعد ولا تحصى، وينخر في كامل الجسد الأمريكي لأكثر من ثلاثة عقود طويلة مهلكة، ومازالت مستمرة، ولسنوات عجاف طويلة قادمة، حيث أفادت آخر الإحصائيات المنشورة في 14 أكتوبر من العام الجاري من مراكز التحكم ومنع المرض بأنه منذ عام 1999 مات نحو 450 ألف أمريكي من الإدمان على الأدوية المسكنة، وبالتحديد المستخلصة من الأفيون، كما أفادت الجمعية الطبية الأمريكية بأن هناك ازدياداً مشهوداً في أعداد الوفيات في أكثر من أربعين ولاية خلال الأشهر الماضية، وأن نحو 20 مليون أمريكي يعانون من الإدمان على المخدرات بأنواعها وأشكالها المتعددة.

 

وجدير بالذكر فإن الرئيس الأمريكي ترمب أعلن في 26 أكتوبر عام 2018 عن أعلى درجات التأهب وهي "حالة الطوارئ الصحية" على المستوى القومي بسبب الإدمان على الحبوب المسكنة للألم، حيث وصف ترمب هذه الحالة الكارثية قائلاً بأنها "أسوأ أزمة مخدرات في تاريخ أمريكا"، كما أضاف "إنها حالة طوارئ قومية، وسنصرف الكثير من الوقت، والكثير من الجهد، والكثير من المال على أزمة الأفيون".

 

كما اتضح بالفعل حجم هذه الكارثة الصحية الاجتماعية الاقتصادية على الولايات المتحدة الأمريكية من خلال التسوية التي توصلت إليها وزارة العدل مع الشركة المصنعة لهذا الدواء العقيم، وهي "بُوردو فَارما"( Purdue Pharma) في 21 أكتوبر من العام الجاري، وبمبلغٍ كبير جداً حطم كافة الأرقام القياسية، وكسر موسوعة جينيس للأرقام القياسية المتعلقة بالغرامات التي تؤخذ على الشركات المخالفة للأنظمة والقوانين الاتحادية في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

فقد وافقت هذه الشركة على هذه التسوية التاريخية ودَفْع مبلغ وقدره 8.34 بليون دولار أمريكي، كما اعترفتْ الشركة رسمياً بجرائمها المتعمدة التي ارتكبتها ضد الشعب الأمريكي، فأقرتْ بها في بيانٍ مقتضب أُطلق على وسائل الإعلام، حيث جاء فيه: "الشركة تُعبِّر عن أسفها العميق، وتتحمل كامل المسؤولية عن ممارساتها الخاطئة التي جاء تفصيلها من قبل وزارة العدل".

 

فوزارة العدل الأمريكية تحقق منذ قرابة عشرين عاماً في ممارسات هذه الشركة المضللة والملتوية التي تُنتج عقار أوكسي كونتين، وهو من أدوية مخدرات الأفيون الصناعية، والذي تم تسويقه وبيعه كمسكن للألم منذ عام 1996، وبخاصة بالنسبة للذين يقاسون من آلامٍ مزمنة طوال حياتهم. 

 

وقد وثقتْ المجلة الأمريكية للصحة العامة في فبراير 2009 وقائع وحيثيات وملابسات سوء استخدام هذا الدواء، وتأثيراته المدمرة على كافة المجتمع الأمريكي في البحث المنشور تحت عنوان: "الدعاية والتسويق لعقار أوكسي كونتين: نصر تجاري وكارثة بالنسبة للصحة العامة".

 

فشركة "بُوردو فَارما" اهتمت بهذا الدواء بشكل غير مسبوق في عالم الأدوية، وجنَّدتْ كل الكفاءات والطاقات البشرية العاملة في الشركة لتسويق هذا الدواء على نطاقٍ جغرافي واسع شمل كل بيتٍ من البيوت الأمريكية، واستهدف كل أسرة ومواطن أمريكي. فعلى سبيل المثال، صرفت الشركة وأنفقت في عام 2001 فقط أكثر من 200 مليون دولار على التسويق والدعاية للدواء، مثل تنظيم المؤتمرات الترويجية والدعوة المجانية للجميع للمشاركة فيها، من أطباء، وممرضين، وأصحاب الصيدليات، وغيرهم من المعنيين بتوزيع وبيع الدواء، ومن خلال هذه المؤتمرات والاجتماعات نجحت الشركة في شراء الكثير من الضمائر البشرية الميتة لتحفيزهم على وصف هذا الدواء للمرضى وبشكلٍ يومي طوال حياتهم.

 

وقد استخدمت الشركة عدة وسائل وأساليب فيها الكثير من الكذب والتضليل وتقديم معلومات خاطئة، منها وضع علامات غير صحيحة على علبة الدواء تفيد بأن احتمال الإدمان من الدواء نادر جداً وأقل من 1%، كما أنها في يوليو 2001 عدَّلت من التعليمات الموجودة على علبة الدواء، فأفادت بأنه لا يوجد دليل علمي بأن الاستخدام الدائم للدواء يسبب الإدمان، كذلك ادعت بأن فاعليته كمسكن ومزيل للألم 12 ساعة فقط، حتى يُكثر المريض من استخدامه، ويصبح عبداً له لا يستطيع أن يعيش بدون تعاطيه مرات عديدة كل يوم.

 

وقد نجحت هذه الشركة بهذه الأفكار الشيطانية في تسويق الدواء في كل أرجاء أمريكا، وحققت بذلك أرباحاً خيالية على حساب صحة الشعب الأمريكي، حيث ارتفعت المبيعات من 48 مليون دولار في 1996 إلى قرابة 1.1 بليون في عام 2000، ثم بلغت المبيعات 3 بلايين، وأخيراً وصلت ذروتها في عام 2016 فحققت 31 بليون دولار، وقد أُجريت دراسة في عام 2004 أكدت فيها بأن هذا الدواء أصبح الأكثر انتشاراً وشعبية في الولايات المتحدة الأمريكية.

 

وهذا المثال الصارخ للإدمان على الحبوب المسكنة لا ينتهي عند هذا الدواء فحسب، وإنما هناك أدوية مهدئة للآلام المزمنة يستخدمها المرضى في كل أنحاء العالم، فمنها ما هو مستخلص من الأفيون، ومنها ما يصنع من الهيروين، ومنها ما هو مستخلص من الحشيش، فكلها يجب التحكم بشدة فيها، وتقنين استخدامها في الحالات القصوى والمزمنة فقط، وبشكل منهجي محكم، وتحت إشراف دقيق ومتابعة مباشرة من الدول نفسها وأجهزتها الصحية.

ولنا في البحرين تجربة مع هذه العقاقير المسكنة، ويجب أن لا ننساها ونضعها دائماً أمام أعيننا، وهي حَبْة "لارِيكا" التي كادت أن تنتشر في بلادنا(راجع مقالي في أخبار الخليج في 13 أغسطس 2019 تحت عنوان "لا تستهينوا بهذا الخبر"، فكما نزل من وباءٍ صحي على الشعب الأمريكي بسبب هذه الحبوب المسكنة، يمكن أن ينزل علينا هذا الوباء نفسه إذا غفلنا عنها لحظة واحدة، فشياطين الإنس يترقبون دائماً أية ثغرة، أو تهاون، أو غفلة من الجهات المعنية فيدخلوا فيها.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق