الخميس، 19 نوفمبر 2020

المخلفات في بيئتنا لا تموت(1 من 2)

كادتْ اليابان أن ترتكب إثماً بيئياً وصحياً عظيمين لا يغتفر، وأوشكت أن تقع في خطيئة أبدية فيبقي تأثيرها خالداً مخلداً في جسدنا وجسد كوكبنا وتتضرر منها الأجيال الحالية والأجيال اللاحقة، وذلك عندما أعلن رئيس الوزراء يوشيدي سوجا(Yoshihide Suga) في 27 أكتوبر عن عزم الحكومة على صرف قرابة 1.23 مليون طن من المخلفات السائلة المنخفضة الإشعاع الناجمة عن محطة فوكوشيما المنكوبة( Fukushima Dai-ichi) في المحيط الهادئ.

 

فهذا القرار الخطير الذي اتخذته الحكومة اليابانية كان له صدى كبيراً وواسعاً على كافة المستويات، القومية، والإقليمية، والدولية، فما أن رأى القرار النور، وخرج إلى الأضواء، وإذا بالانتقادات والاحتجاجات تنصب فوراً على الحكومة اليابانية. فأما على المستوى الوطني، فقد لاقى القرار اعتراضاً شديداً من المعنيين بتجارة الأسماك ومن الكثير من علماء البيئة والمهتمين بالصحة العامة، وأما على المستوى الإقليمي فقد أبدت بعض الدول المجاورة لليابان مثل الصين وكوريا الجنوبية قلقها العميق وتخوفها الشديد من سماح الحكومة اليابانية لإلقاء هذه الأحجام المهولة من المياه الملوثة بالمواد المشعة في المحيط الهادئ، وأما على المستوى الدولي فقد احتجت عدة منظمات بيئية غير حكومية مثل السلام الأخضر على هذا القرار، ونشرت بياناً في 24 أكتوبر تفيد فيه الأخطار الناجمة عن ارتكاب هذه الكبيرة، وبالتحديد من العناصر المشعة الموجودة في بطنها مثل نظير الهيدروجين المشع المعروف بالتريتيم(tritium)، والذي تنبعث منه إشعاعات مؤينة قد تسبب السرطان للإنسان، ومنها نظير عنصر الكربون(14) المشع.

 

فكل هذه المواقف الحازمة أجبرت الحكومة اليابانية على إعادة النظر في القرار وتأجيل صرف المخلفات المشعة، حيث أعلن وزير الاقتصاد والتجارة والصناعة(Hiroshi Kajiyama) في 29 أكتوبر في مؤتمر صحفي بأن الحكومة ليست لديها خطة زمنية لإدارة هذه المخلفات السائلة المشعة، وقال: "نحن نريد أن نعمل بعناية مع هذه القضية".

 

وفي الحقيقة فإن هذه الأزمة العصيبة التي يعاني منها اليابان منذ أكثر من تسع سنوات عجاف، والمتمثلة في التراكم اليومي للمخلفات السائلة المشعة، كانت بسبب الزلزال بقوة 9.0 دراجات الذي هزَّ الساحل الشمالي الشرقي في 11 مارس 2011، وأدى إلى تكوين مدٍ بحري "تسونامي" بطول 15 متراً، فتعطلت الكهرباء في محطة فوكوشيما للطاقة النووية، وتوقفت أجهزة التبريد الخاصة بتبريد الوقود ومنعه من الانصهار في المفاعلات، مما أدى إلى تسرب الأطنان من المواد المشعة إلى كل مكونات البيئة، فمات نحو 18500 ياباني، وتم تهجير وإخلاء منازل أكثر من 160 ألف. فهذا الكرب العظيم الذي نزل على اليابان تسبب منذ ذلك الوقت في صرف أحجامٍ كبيرة من المياه المشعة مباشرة إلى المحيط الهادئ، ثم بعد منع صرفها إلى البحر، يتم الآن جمعها في ألف خزان عظيم في موقع المحطة، حتى بلغ حجمها الإجمالي اليوم قرابة 1.2 مليون طن من المياه المشعة، وهذه الكميات تزيد يومياً بواقع 170 طناً، بحيث إنه بحلول صيف عام 2022 لن تتمكن اليابان من تخزين أية كميات إضافية، أي أن طاقتها الاستيعابية ستتشبع كلياً بعد زهاء عامٍ واحدٍ فقط، فلا بد إذن من إيجاد حلٍ واقعي وعملي للتخلص منها قبل أن تتحول إلى قنابل اشعاعية مدمرة، لا تلوث اليابان فحسب، وإنما تنتقل عدواها كفيروس كورونا إلى كل شبرٍ من كوكبنا من بشرٍ، وشجرٍ، وحجر، وستبقى فيها سنواتٍ طويلة جداً لا يعلمها إلا الله. فعقل الإنسان وقدرته العلمية تقف عاجزة أمام هذه المعضلة المعقدة، فلم يجد حتى الآن حلاً مستداماً من الناحيتين الصحية والبيئية سوى الطريق الأسهل والأرخص وهو إلقاء هذه المخلفات في البحر!

 

فبعض هذه الملوثات الإشعاعية عمرها طويل جداً، فمنها ما يزيد عن آلاف السنين، أي أنها تبقى طوال هذه الفترة حية لا تموت، وتنبض بالحياة، فتبث سمومها في كافة عناصر البيئة، فعندما تدخل في البيئة المائية، على سبيل المثال، فهي تأخذ عدة مسارات أكدتها وأثبتتها الدراسات الميدانية التي راقبت وتابعت تحركات هذه الملوثات المشعة مع الزمن من خلال تحليل المياه والتربة والكائنات النباتية والحيوانية الصغيرة منها والكبيرة في أعماق مختلفة من سطح الماء. فأما المسار الأول فهو تَنَقُل هذه المخلفات المشعة من خلال التيارات المائية القاعية والسطحية والرياح إلى مواقع بعيدة جداً عن موقعها الأصلي، فعندما صُرفت المياه المشعة من محطة فوكوشيما إلى المحيط الهادئ في الشرق، وصلت بعد فترة قصيرة من الزمن إلى أقصى الغرب وعلى مسافات آلاف الكيلومترات من فوكوشيما، وبالتحديد إلى مياه الولايات المتحدة الأمريكية في الولايات الغربية، حيث تم قياس مستويات غير طبيعية ومرتفعة من الإشعاع في المياه والكائنات البحرية وكان مصدرها مياه الصرف الإشعاعي من فوكوشيما.

 

وأما المسار الثاني فيتمثل في انتقال السموم الإشعاعية إلى الكائنات البحرية العالقة في الماء، سواء أكانت نباتية أو حيوانية التي تعد الحلقة الأولى من السلسلة الغذائية البحرية، فتدخل مع الوقت إلى أجسام الكائنات البحرية الأكبر حجماً، ومنها إلى رأس هرم السلسلة الغذائية وهو الإنسان، مما يؤكد بأنك تتناول وجبة مشعة من السمك وأنت لا تعلم!

 

وأما المسار الثالث الذي تأخذه هذه الملوثات المشعة فهو ترسبها في قاع البحر ومكوثها في التربة خالدة فيها حتى ينتهي إشعاعها، وخلال تلك السنوات الإشعاعية العقيمة فهي تلوث التربة في كل مكان، وتتراكم مع الزمن رويداً رويداً في أجسام الكائنات التي تعيش فيها، ومع الوقت تصل إلى الإنسان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة.

 

وأزمة المخلفات المشعة لا تتمثل فقط في هذه الكارثة الأخيرة التي مسرح أحداثها في محطة فوكوشيما النووية، وإنما هي قديمة جداً وتصل إلى أكثر من مائة عام، عندما بدأ العلماء في اكتشاف العناصر المشعة والتعرف على أسرارها وتطبيقاتها العملية في حياتنا اليومية في السلم وفي الحرب. ولكن هذه الملوثات المشعة دخلت أول مرة في بيئة كوكبنا على نطاقٍ واسعٍ وكبير مع التجارب النووية العسكرية التي بدأت الدول في تنفيذها، وبالتحديد الانفجارات النووية في بحار العالم، وبخاصة في الجزر الفقيرة والمستضعفة في المحيط الهادئ. فالسبق في التفجيرات النووية البحرية كان للولايات المتحدة الأمريكية عندما أجرت أول تجربة نووية أمريكية في عام 1946 في جزر المارشال في المحيط الهادئ(Pacific Bikini Atoll)، ثم أكثر من 250 تجربة نووية بحرية من مختلف دول العالم منها فرنسا، وبريطانيا، والاتحاد السوفيتي، وألمانيا، وبلجيكا.

 

وهذه البرامج النووية العسكرية والسلمية أفرزت مخلفات مشعة لم يعرف العالم كيفية التخلص منها، وبخاصة في تلك الحقبة الزمنية، فكانت البيئة البحرية هي الضحية الأولى لجرائم الدول الصناعية المتقدمة البيئية والصحية، فقد جاء في عدة تقارير للوكالة الدولية للطاقة الذرية(International Atomic Energy Agency) أنه خلال الفترة 1946 إلى 1993، انتهكت هذه الدول العظمى حرمات بيئتنا البحرية وألقت قرابة 200 ألف طن من البراميل المعدنية الممتلئة بالمخلفات المشعة. وهذه البراميل التي ما هي إلا قنابل دمار شامل موقوتة قد تنفجر في أية لحظة فتحدث تلوثاً إشعاعياً لم يشهد له التاريخ مثيلاً، فهي موجودة ومخلدة لا تموت في أعماق بحارنا، وجاثمة في تربتها وقد أكلها الصدأ وتلفت مع الزمن، فتتسرب حتماً منها الملوثات المشعة إلى أن يشاء الله دون أن يعلم عنها أحد، فتصل إلينا ونحن لا نعلم عن وجودها. والكتاب المنشور في أكتوبر 2020 للباحثين جن ميتشل وجون دور (Jon Mitchell and John Dower ) تحت عنوان: "تسميم المحيط الهادئ: تخلص الجيش الأمريكي بسرية للبلوتينيوم المشع والأسلحة الكيميائية والعميل البرتقالي" يقدم أمثلة على إلقاء الدول المتقدمة، وعلى رأسهم أمريكا للمخلفات بشكلٍ عام، والمخلفات النووية المشعة بشكلٍ خاص في المحيط الهادئ.

 

فهذه هي بعض المعلومات والحقائق التي نعلم عنها الآن حول التلوث الإشعاعي بشكلٍ خاص وعن خلوده حياً لا يموت في بيئتنا، وهناك أسرار وخفايا كثيرة أخرى لم تفش عنها الدول الصناعية النووية المتقدمة، وربما الأيام ستكشف هولها وعظمة تأثيرها على كوكبنا واستدامة حياة البشر عليها.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق