الأحد، 22 نوفمبر 2020

المخلفات في بيئتنا لا تموت(2 من 2)

في المقال السابق ركزتُ على أن المخلفات المشعة إذا دخلت إلى مكونات بيئتنا فإنها ستبقى فيها خالدة مخلدة لا تموت سريعاً، فبعضها يبقى نابضاً بالحياة آلاف السنين، وهو ينشر سمومه المشعة في البيئة ومكوناتها الحية، ثم أخيراً ولو بعد حين، وبطريقة مباشرة أو غير مباشرة يصل إلى أعضاء جسم الإنسان، فيرمي به في شباك الأمراض المستعصية على العلاج.

 

وهناك ملوثات أخرى غابرة تجاوزها الزمن، وكُنا نُعدها منذ سنوات بأنها قد انتهت من مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، وأننا فعلياً قد تخلصنا منها كلياً منذ مطلع السبعينيات من القرن المنصرم، فلم يعد لها أي وجود معنا. ولكن كما أكدتُ لكم بأن المخلفات لا تموت، وإنما تظهر علينا كالأشباح عندما يحل الظلام الكالح فتفسد علينا حياتنا، وتظل معنا كالحلم المزعج، والكابوس المرعب الذي يجثم فوق صدورنا ويعكر نفوسنا.

وإليكم قصة أحد هذه الملوثات، وهو من المنتجات الشهيرة التي صنعها الإنسان في مختبره ونال على ذلك جائزة نوبل للسلام في عام 1948، وهو العالم السويسري بول مولر(Paul Hermann Müller)، حيث اكتشف أشهر مبيد حشري صنعة الإنسان في تاريخه الطويل، ومن أكثرها فاعلية في القضاء على الآفات والحشرات المرضية التي كانت تدمر مجتمعات بأكملها، وهو المعروف بـ دِي دِي تِي.

فهذا المبيد الحشري السحري نظراً لفاعليته في القضاء على الأمراض التي كانت تقضي على ملايين البشر وعلى رأسها الملاريا، إضافة إلى حماية المحاصيل الزراعية من شر الآفات والحشرات الضارة التي كانت تلتهم هذه المحاصيل الغذائية، فقد تم استخدامه في كل أنحاء العالم بدون استثناء وبشكلٍ عشوائي فيه الكثير من الإسراف والإفراط، فكان هذا المبيد يُرش من فوق بالطائرات فيلوث مساحات جغرافية واسعة من الأرض، من التربة الزراعية وغير الزراعية، كما كان يرش من الشاحنات الكبيرة في الطرقات الواسعة والحدائق العامة، إضافة إلى الرش اليدوي الذي عاصرته شخصياً عندما كنتُ طفلاً صغيراً، حيث كان يأتي عامل الصحة فيرش البواليع، والمنازل، والأسواق، وأماكن تجمع المياه والقمامة، كما أننا كنا نحن الأطفال نأخذ حصتنا من هذا المبيد عندما كان يرش العامل علينا ونحن نلعب أمامه.  

فمن الواضح إذن أن هذا المبيد دخل في بيئتنا من أوسع أبوابها، ونحن وبدون عقلانية ودراسة معمقة وشاملة لهذا المبيد، أدخلناه طواعية وبأيدينا في مكونات بيئتنا الحية وغير الحية، حتى إن هذا المبيد مع الوقت تم اكتشافه وبمستويات مخيفة في المحاصيل الزراعية التي نأكلها جميعاً، وفي السلسلة الغذائية البحرية، بدءاً بالكائنات النباتية والحيوانية الصغيرة العالقة في الأسماك، ثم الأسماك التجارية الكبيرة التي نستهلكها يومياً، كما تم اكتشافه في الطيور الآكلة للأسماك، وأخيراً جاءت الطامة الكبرى عندما تم اكتشاف المبيد في حليب الأم التي ترضع طفلها، وفي أجسام البشر صغاراً وكباراً. وهنا دق ناقوس الخطر، ورفع العلم الأحمر ضد هذا المبيد.

فقد أجمعت الدراسات في نهاية الستينيات من القرن المنصرم بأن هذا المبيد ثابت ومستقر ولا يتحلل سريعاً، أي أنه يمكث في مكونات بيئتنا سنواتٍ طويلة، فيتراكم يوماً بعد يوم في الدهون الموجودة في أجسامنا وأجسام الكائنات الحية الأخرى، ولذلك أجمعوا بعد تجارب وخبرات ميدانية بأن أضرار المبيد بدأت تفوق المنافع، وأن المفاسد التي تنجم عن سوء استخدامه زادت عن المصالح، وعندها اتفقت معظم دول العالم على حظره ومنع استخدامه، إلا على نطاق ضيق وفي الحالات القاهرة، حيث منعت الولايات المتحدة الأمريكية هذا المبيد في عام 1972. وظننا بعد هذا المنع بأن آثار هذا المبيد على مجتمعنا ستزول مع الوقت، وأن هذا المبيد قد نقل إلى مثواه أخرى وتحول إلى جزء من مقبرة التاريخ البيئي الصحي المعاصر.

ولكن كما أكدتُ لكم فإن المخلفات وآثار الملوثات تحفر بصماتها عميقة في بيئتنا، وتبقى على قيد الحياة لا تموت حتى تكتشفها الأيام، وهذا ما حدث بالفعل للمبيد دي دي تي بعد منعه قرابة خمسين عاماً. فقد وقعت حادثة غريبة بطلها أحد العلماء في منطقة بحرية بالقرب جزيرة سانتا كاتالينا(Santa Catalina) في مدينة لوس أنجلوس الأمريكية، وهي منطقة سياحية وتجارية جميلة يستخدمها الصيادون وهواة الغوص. فهذا الباحث كان يجري تجارب حول تسرب الميثان من التربة القاعية في البحر، وكان يستخدم عدة معدات وأجهزة، منها روبوتات وأجهزة تصوير خاصة للمياه العميقة والمظلمة والتي تصل إلى قرابة ألف متر. وهذه الأجهزة عندما بدأت بالتصوير رصدت مناظر غريبة، فكانت مفاجأة غير سارة لهذا الباحث، فللوهلة الأولى بدت المنطقة وكأنها صحراء جرداء قاحلة، ثم لقطت كاميرا التصوير المشهد الأكثر غرابة ودهشة وما لم يتوقعه أحد، ولم يكن في الحسبان، وهو منظر آلاف البراميل الحديدية  الجاثمة فوق ظلمة التراب في القاع على عمق أكثر من كيلومترٍ واحد، وكأنها أشباح تطل برأسها فوق تربة قاع المحيط الهادئ.

فهذه الصدمة القوية اضطرت العلماء والمعنيين إلى سبر غور هذه الحادثة وإجراء دراسة أخرى لمعرفة مصدر هذه البراميل، وما تخفيها في بطنها من مفاجآت وأسرار تاريخية قديمة. فالرجوع إلى الدراسات التاريخية والأرشيف المعنى بالمخلفات والسجلات الخاصة بتحرك السفن في تلك المنطقة البحرية، أكدت أنه في الفترة من 1947 إلى 1982، كان أكبر مصنع لإنتاج المبيد الحشري وهو مونتروز كيميكل(Montrose Chemical Corp.)، يخزن مخلفاته السائلة الملوثة بحمض الكبريتيك والمبيد الحشري دي دي تي في براميل، ويلقيها في جنح الليل في بارجات تنقلها إلى أعماق المحيط، وفي الكثير من الحالات كانت البراميل تثقب من أجل توفير الجهد والوقت والمال، فتترسب سريعاً في المناطق الساحلية، وتتسرب منها المخلفات وتنتشر في كل أنحاء بيئة المحيط. ومنذ ذلك الوقت، وطوال هذه السنوات، كان السر محفوظاً في الصدور، ومخفياً في النفوس، فلم يعلم عنه أحد لعقود متلاحقة. وأما بالنسبة للمسؤولين في المصنع، فقد اختفت هذه المخلفات عن الأبصار والعيون، وانتهت مشكلة المخلفات منذ أن لامست التربة في قاع المحيط، فمات المسؤولون عن هذه الممارسات الشنيعة، ولكن المخلفات لم تمت وبقت هناك أكثر من خمسة عقود تشهد على ظلم الإنسان تجاه بيئته، وتؤكد ما على ارتكبته يداه من تعد صارخ على حرمات البيئة وصحة الناس، وقد نقلت صحيفة اللوس أنجلوس تايمس في 25 أكتوبر من العام الجاري تفاصيل هذه الجريمة البيئية الصحية العظيمة تحت عنوان: "سواحل لوس أنجلوس كانت موقعاً للإلقاء مخلفات المبيد الحشري المعروف دِي دِي تي، لم يراها أحد حتى الآن".

ولذلك فأزمة المخلفات لا تنتهي بإلقائها في أي مكان، وآثارها وأضرارها لا تزول بالتخلص العشوائي منها، مما يحتم علينا الإدارة السليمة لكل أنواع المخلفات، سواء أكانت صناعية أو منزلية، حفاظاً على أمننا الصحي وسلامة الأجيال اللاحقة من بعدنا، فنحن نموت ولكن المخلفات لا تموت.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق