الأربعاء، 2 ديسمبر 2020

تداعيات غزو الفلوجة باقية


الحروب مهما طالتْ فستنتهي حتماً ولن تستمر إلى الأبد، ولكن إفرازات هذه الحروب وتأثيراتها المدمرة تبقى معنا سنواتٍ عجاف طويلة لا تكاد تنتهي، فبعضها يجثم في بيئتنا، في البر والبحر، وبعضها يمكث ويتراكم في أجسادنا.

 

فالإنسان وبعد عقود طويلة من انتهاء الحرب العالمية الأولى والثانية، مازال يكتشف بين الحين والآخر، وحتى يومنا هذا مخلفات قابعة في أعماق البحار والمحيطات، من طائرات وسفن غارقة في عمق البحر، أو بقايا ذخائر وقنابل لم تنفجر نزلت في البحر فدفنت في مقبرة التربة القاعية، أو مخلفات أخرى مازالت حية ونشطة وقابلة للانفجار تهدد حياة البشر، ونسمع عنها ويكتشفها الإنسان في المدن العريقة المكتظة بالسكان.

 

ولكن ما هو أخطر من هذا النوع من المخلفات الصلبة الكبيرة الحجم هو المخلفات التي لها القدرة على البقاء في بيئتنا خالدة مخلدة آلاف السنين وهي تبث سمومها القاتلة في مكونات بيئتنا، فلا تهدد الأجيال الحالية فحسب وإنما ينتقل تأثيرها إلى الأجيال القادمة من بعدنا.

 

فهناك على سبيل المثال المخلفات العضوية الثابتة والمستقرة التي لا تتحلل، ولذلك إذا دخلت في البيئة تتراكم فيها، ويرتفع تركيزها يوماً بعد يوم، حتى تنتقل في نهاية المطاف إلى الإنسان، كالعميل البرتقالي، وهو مبيد للأعشاب والغابات استعمله الجيش الأمريكي في الفترة من 1961 إلى 1971 من القرن المنصرم أثناء غزو فيتنام لتدمير وإزالة الغابات والأحراش مصدر الغذاء والأمان والملجىء للفيتناميين المقاومين للاحتلال الأمريكي. فمكونات هذا المبيد وبالتحديد مجموعة مركبات "الديكسين" الشديدة الخطورة مازالت موجودة في عناصر البيئة الفيتنامية وأجسام البشر والحياة الفطرية، وتنتقل من جيل إلى آخر، فتعرضهم للأسقام والعلل المزمنة والمستعصية، فهذه المركبات ثابتة ومستقرة ولا تتحلل عند دخولها في جسم البيئة ولها القدرة على الذوبان والتراكم في الشحوم والدهون، سواء أكانت البشر أو الحيوانات، بل وإن هذا السم تم اكتشافه بتراكيز مرتفعة في حليب الأم الفيتنامية بعد قرابة أربعة عقود من رش المبيد، حسب الدراسة المنشورة في مجلة أمريكية هي "علم وتقنية البيئة" في الأول من أغسطس من 2011.

 

وهناك الملوثات المشعة المتمثلة في قنابل الدمار الشامل التي أمطرها الجيش الأمريكي أيضاً على مدينتي هيروشيما وناجازاكي أثناء الحرب العالمية الثانية، وهذه المواد المشعة التي نزلت على اليابان مازالت تعيش معهم وتعكر عليهم حياتهم، فهي دخلت إلى بيئة اليابان في عام 1946 وهي نفسها مازالت موجودة تنبض بالحياة والحركة في أجسام اليابانيين، وتسبب لهم الأمراض المخيفة.

 

كذلك هناك الذخائر التي تحتوي على عناصر مشعة كاليورانيوم، وبالتحديد اليورانيوم المستنفذ، أو الناضب(depleted uranium) الذي استخدمه الجيش الأمريكي ولأول مرة أثناء حروب الخليج في عام 1991 و 2003، وبالتحديد أثناء غزو مدينة الفلوجة بالقرب من بغداد في عام 2003 و 2004. وقد ذكَّرني المقال المنشور في مجلة الأمة الأمريكية(The Nation) في 16 نوفمبر تحت عنوان: "أطفال فلوجه: الحالة الطبية الغامضة في قلب محرقة العراق" إلى خطورة هذه المواد المشعة التي تنبعث عند إطلاق هذه الذخائر الحية المشعة إلى الهواء الجوي وإحداث التفجيرات على الأرض، وتأثير هذه العمليات على الإنسان وبيئته عامة، وعلى الأطفال خاصة. وفي الحقيقة أنني كتبتُ عدة مقالات في السابق لأُنبه إلى تهديدات اليورانيوم المشع والأسلحة الأخرى التي استخدمها الجيش الأمريكي والجيوش الأخرى التي شاركت في الحرب على الشعب العراقي عامة، وسكان الفلوجة خاصة أثناء الغزو الأمريكي للعراق، منها المقال المنشور في 12 أغسطس 2011 تحت عنوان:  "غزو فيتنام والعراق والتداعيات البيئية والصحية"، والثاني المنشور في 29 أكتوبر 2012 وعنوانه:" التشوه الخَلْقي للأطفال في العراق"، والثالث في 10 نوفمبر 2012 تحت عنوان: "اعتراف أمريكي بالجرائم البيئية في العراق".

 

فقد أشارت عدة دراسات إلى أن استخدام الجيش الأمريكي لليورانيوم الناضب وأنواع أخرى من الأسلحة والقنابل، إضافة إلى تفجير العشرات من المصانع الكيميائية السامة والخطرة، كلها أدت وبشكل تراكمي إلى أزمات صحية خانقة ليست لسكان الفلوجة فحسب، والذي أَطلقَ فيه الجيش الأمريكي نحو 1.3 طن من ذخائر اليورانيوم، وإنما للجنود الأمريكيين الذين قاتلوا في حرب الخليج على حدٍ سواء، حيث أُصيب الآلاف منهم بمرضٍ جديد وغريب لم يعرفه الطب من قبل، وأُطلق عليه "بمرض أو ظاهرة حرب الخليج"، وهذا المرض مازال يحير عقول أطباء أمريكا، فلم يحددوا حتى يومنا هذا أسباب تعرض الجنود لهذا المرض العصيب الغامض.

 

وأما بالنسبة لسكان الفلوجة فقد أفادت عدة أبحاث ميدانية عن انكشاف عدة مظاهر صحية غريبة، وعن ارتفاع مطرد في الإصابة ببعض الأمراض المستعصية وفي مقدمتها السرطان. وأما المظاهر فتمثلت بشكلٍ واضح في زيادة حالات الإجهاض والولادة المبكرة، وزيادة ملحوظة في حالات وفيات الأجنة بعد الولادة، إضافة إلى ولادة الأطفال المشوهين والذين يعانون من عيوب خَلْقية غريبة، وبالتحديد ولادة أطفال بدون أنف، أو بدون جماجم، أو خروج بعض الأعضاء من البطن، أو التصاق الأعضاء ببعض مثل الأرجل. 

 

وقد أفادت بعض التقارير بأن عدد حالات ولادة الأطفال الذين بهم عيوب خلقية كان 1.37 لكل 1000 ولادة، ثم زاد إلى 7.6 لكل 1000 في الفترة من 1988 إلى 1992، ثم ارتفع إلى 26.2 مولود خلال الفترة من 2003 إلى 2007 لكل 1000 ولادة، وأخيراً في الفترة من 2007 إلى 2011 تضاعف 17 مرة عن السنوات الماضية، وأما بالنسبة لحالات الإجهاض للنساء الحوامل فقد زادت من 10% قبل الغزو إلى 45%. فكل هذه الأزمات الصحية التي انكشفت في العراق كانت بسبب الحروب المؤسفة التي وقعت في الخليج، ونتيجة مباشرة للعديد من الممارسات العسكرية غير المسموح بها دولياً والتي قام به الجيش الأمريكي خاصة وجيوش الدول الغربية الأخرى التي شاركت في الحرب عامة.

 

فالنتيجة هي تعاون وتراكم كل هذه الممارسات الخاطئة المهلكة للحرث والنسل والبيئة طوال العقود الماضية أثناء فترة الحروب، وليس بسبب عامل واحدٍ فقط، أو مصدر وحيد للتلوث، حيث إن الملوثات التي انطلقت من كل هذه المصادر والعمليات العسكرية من مواد مشعة، وملوثات كيميائية سامة ومسرطنة، كلها تجمعت وتراكمت في مكونات البيئة من هواء وماء وتربة يوماً بعد يوم، ثم انتقلت إلى الحياة الفطرية النباتية والحيوانية، وأخيراً وصلت إلى أعضاء جسم الإنسان وبدأت في التراكم والتركيز في خلاياه والانتقال من الأم إلى جنينها، ومن جيلٍ إلى آخر، فظهرت كل هذه التنقلات من البيئة إلى الإنسان على شكل أمراض مزمنة، وتعقيدات في الحمل والولادة، وعيوب وتشوهات في الأجنة، وهذه المظاهر المؤلمة مازالت موجودة ويعاني منها الأطفال بشكلٍ خاص، والحكومة الأمريكية تخلت عنهم وكأنها لم تفعل شيئاً طوال سنوات الحروب.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق