الأحد، 20 ديسمبر 2020

خطورة المخلفات البلاستيكية من واقع تجربة شخصية

كنتُ قبل أيام أسبحُ في بحر درة البحرين، والذي يُعد من واقع تجربتي الشخصية ومشاهداتي ومتابعاتي للتغيرات والمستجدات في البيئة البحرية في البحرين من أنقى وأصفى المواقع البحرية من ناحية نوعية وجودة وصحة ماء البحر، وأثناء السباحة كنتُ أغوص تارة لمشاهدة الكائنات البحرية التي تسبح في عمود الماء وتعيش في قاع البحر وفي داخل التربة القاعية، فلاحظتُ عن بُعد شيئاً أبيض اللون جاثماً فوق سطح التربة ويطل برأسه إلى الأعلى، فأخذني الفضول وحبُ الاستطلاع للاقتراب من هذا الشيء الغريب بحذر وتأني شديدين، فربما يكون كائناً بحرياً ساماً ومؤذياً يسبب لي جرحاً عميقاً وحاداً.

 

وعندما اقتربتُ أكثر من هذا الجسم الأبيض المجهول، وبدأتْ ملامحه تظهر شيئاً فشيئاً، وتتضح الصورة أكثر، وتنكشف هويته بدقة أشد، وإذا بهذا الشيء الغريب عبارة عن مخلفات بلاستيكية على شكل صحن بلاستيكي كبير أبيض اللون، تم التخلص منه بأيدي بشرية آثمة ومؤذية للرؤية، فشوه منظر البحر الفطري الجميل، ولوث التربة القاعية.

 

فقررتُ عندئذٍ من باب الحفاظ على نظافة البيئة البحرية وحمايتها من الأجسام والملوثات الغريبة الضارة للبشر والحياة الفطرية البحرية، إزالة هذا الصحن البلاستيكي من قاع البحر، وعندما حاولتُ الإمساك بهذا الصحن وإذا به، ولا أقول بأنه تكسر إلى قطعٍ وأجزاء أصغر، وإنما تهشم وتفتت بين يدي، وتحول إلى مسحوقٍ أبيض كلياً، وإلى جسيمات متناهية في الصغر قد لا يُرى بعضها بالعينة المجردة، فنزلتْ هذه الجسيمات البلاستيكية وانتشرت فوق سطح التربة القاعية.

 

وهذه المخلفات والجسيمات البلاستيكية الصغيرة التي يُطلق عليها الآن بالميكروبلاستيك، أو الجسيمات المجهرية الأصغر حجماً وتسمى النانوبلاستيك، هي التي تُشكل تهديداً مزمناً وحقيقياً للحياة الفطرية في البحر وللإنسان الذي يتغذى على هذه الأحياء البحرية التي تسممت أجسامها بهذه المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم.

 

وأما المشهد الثاني الذي رأيته أمامي ومتعلق مباشرة بخطورة المخلفات البلاستيكية على الحياة الفطرية البحرية، فالمتهم الرئيس فيه هو المخلفات البلاستيكية التي تكون هيئة أكياس رقيقة، أو أوراق بلاستيكية مرنة ودقيقة، حيث أثناء السباحة رأيتُ تحت قدمي سرطان البحر(الجُب جُب)، وفوراً شرع في الهروب مني، ولكن أثناء هروبه ولج في كيسٍ بلاستيكي موجود أمامه، فتعرقل فيه، وانحبس بداخله كالسجين، ولم يتمكن مباشرة من الهروب والخروج من هذا الكيس، إلا بعد محاولات عدة قام بها، وجهد كبير، حتى أخيراً فلت من شباك هذا الكيس البلاستيكي. ففي هذه الحالة كان هذا الكائن البحري الحي محظوظاً، حيث نجح من الإفلات والخروج من سجن هذه المخلفات البلاستيكية، ولكن في الكثير من الحالات الأخرى لن يتمكن من الخروج منها، فيبقى بداخلها حتى يموت من الجوع.

 

فمثل هذه المشاهد أصبحت الآن مألوفة، وتتفاقم وتزيد يوماً بعد يوم، ووجود هذه المخلفات البلاستيكية الصغيرة الحجم يمكن رؤيتها الآن في كل شبر من الأرض، في البر، والبحر، والجو، وفي أوراق الأشجار العالية، كما يمكن مشاهدتها في مواقع من الكرة الأرضية التي لا تخطر على بال أحد، مثل ثلوج ومياه القطبين الشمالي والجنوبي، وفي أعمق بقعة بحرية على بعد أكثر من عشرة كيلومترات تحت سطح البحر في المحيط الهادئ في ظلمات خندق مريانا وفي الكائنات الحية التي تعيش في تلك المنطقة الشديدة البرودة والمظلمة كلياً مثل الكائن البحري الذي يشبه الروبيان واسمه العلمي(Eurythenes plasticus)، حسب الدراسة المنشورة في مجلة(Zootaxa) في الخامس من مارس من العام الجاري، كذلك اكتشفتْ هذه المخلفات البلاستيكية في أعالي قمم الجبال النائية والشاهقة والبعيدة عن أيدي الإنسان، وعن أي نشاط بشري.

 

فعلى سبيل المثال، نشرتْ مجلة "أرض واحدة"(One Earth) في ديسمبر من العام الجاري عن اكتشاف المخلفات البلاستيكية بأحجامها المختلفة في كل عينات الثلج وعينات المياه الجارية التي تم جمعها في أعلى قمة على سطح الأرض، وهي قمة جبال إيفرست المشهورة، وعلى ارتفاع 8850 متراً فوق سطح الأرض.

 

وقد قدَّمت دراسة علمية منشورة في مجلة "العلوم" في 23 يوليو 2020 تحت عنوان: "تقييم سيناريوهات متعلقة بمنع التلوث البلاستيكي" معلومات تقديرية حول أحجام المخلفات البلاستيكية الصغيرة والكبيرة التي تلج سنوياً في مكونات بيئتنا، حيث أفادت الدراسة بأن كمية المخلفات التي تدخل إلى عناصر بيئتنا من هواء وماء وتربة تبلغ نحو 710 ملايين طن سنوياً من المخلفات البلاستيكية "الماكْرو"، أي الكبيرة الحجم التي نراها بعيوننا المجردة أمامنا في كل مكان، إضافة إلى 1.5 مليون طن سنوياً من المخلفات الميكروبلاستيكية والجسيمات البلاستيكية الصغيرة الحجم، وهذه المخلفات بالتحديد تصل إلى أجسام الكائنات الحية، مثل النباتات المأكولة، حسب الدراسة المنشورة في 13 يوليو من العام الجاري في مجلة استدامة الطبيعة(Nature Sustainability تحت عنوان: "دخول الميكروبلاستيك إلى المحاصيل الزراعية". فقد أكد علماء من الصين على وجود الميكروبلاستيك في جذور وساق وأوراق الخضروات، ومن هذه الخضروات ينتقل البلاستيك إلى الحيوانات، ثم إلى السلسلة الغذائية التي تنتهي بالإنسان، فتبدأ هذه المخلفات البلاستيكية في التراكم في أعضاء جسمه مع الزمن، بحسب ما أكدتها الدراسة المنشورة في مجلة تطورات العلوم(Science Advances)في العدد المنشور في 13 نوفمبر من العام الجاري، ولا يعلم أحد حتى الآن التأثيرات الصحية التي تنجم عن مثل هذه الظاهرة المستجدة، والأمراض والعلل الحادة والمزمنة التي ستنزل علينا مستقبلاً.

 

فالمخلفات البلاستيكية تمثل تهديداً حقيقياً لصحة البيئة ومكوناتها الحية من إنسان وحياة ونبات، والدراسة المنشورة في مجلة رسائل الحماية(Conservation Letters)في الثالث من ديسمبر من العام الحالي تحت عنوان: "التلوث البلاستيكي يقتل الأحياء البحرية، ولكن كيف نضع السياسات لخفض الوفيات؟"، تؤكد على هذه الحقيقة، ولكن هناك الكثير من الغموض الذي يدور حول هذه المخلفات والتي مازال الإنسان يجهله، مثل كيفية تصرف المخلفات عندما تدخل في البيئة، وما هو مصيرها النهائي، وكيف تتراكم في أعضاء الكائنات الحية، وكيف تنتقل من مكونات البيئة غير الحية إلى الكائنات الحية، وما هي تأثيراتها الصحية عليها؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق