الأحد، 16 سبتمبر 2018

العميل البرتقالي يُبعثْ من جديد


عندما أتحدثُ هنا معكم عن "العميل البرتقالي" فإنني أتكلم عن صفحةٍ سوداء مظلمة من التاريخ المعاصر، وبالتحديد أثناء الغزو الأمريكي لفيتنام في الستينيات من القرن المنصرم، أي قبل أكثر من 60 عاماً، ومن المفروض أن هذه الصفحة العصيبة قد أُغلقت وطُويت، وتحولت سيرتها إلى كتب التاريخ وملفات الأرشيف القديم، فمن الذي أحيا هذا الجزء المؤلم من التاريخ مرة ثانية وهي رَمِيمْ؟


ومن الذي بعث "العميل البرتقالي" من قبره من جديد؟


 


وفي الحقيقة هناك حوادث وكوارث تاريخية بسبب انعكاساتها الشديدة المتغلغلة في قلب المجتمعات عبر الأجيال، فإنها لا تموت أبداً وتنبض دائماً بالحياة، فتبقى خالدة مخلدة ومنقوشة في ذاكرة البشرية، ومحفورة بعمق في تاريخها الطويل، فكلما طوى عليها الدهر وحسبناها اندثرت ودفنت تحت الثرى، جاءت حوادث تحيي آثارها مرة أخرى وتُجدد ذكراها وآلامها أمام الناس، ومن هذه الحوادث التاريخية الكرب البيئي الصحي العظيم الذي نزل على الشعبين الفيتنامي والأمريكي أثناء وبعد الحرب الأمريكية الفيتنامية.


 


والعميل البرتقالي هو أحد مشاهد ووقائع هذه الطامة الكبرى التي لا ولن تغيب عن الذاكرة أبد الدهر، والذي أحياه اليوم من جديد وبَعَثهُ من مدفنه في كتب التاريخ المعاصر هو الخبر الذي نقله بعض الصحف في 31 أغسطس من العام الجاري تحت عنوان:"فيتنام تُطالب شركة مُونْسانتو الأمريكية العملاقة دفع تعويضات لضحايا العميل البرتقالي"، علماً بأن الصليب الأحمر الفيتنامي أعلن مؤخراً بأن هناك أكثر من ثلاثة ملايين فيتنامي سقطوا ضحايا لهذا العميل القاتل.


 


فالعميل البرتقالي المتهم هنا بارتكاب المجازر البشرية وإسقاط الضحايا من الشعب الفيتنامي والشعوب الأخرى، ليس بشراً وإنساناً يمشي على الأرض فيمكن محاسبته ومعاقبته على ما ارتكبته يداه، وإنما هو مبيد قاتل ومدمر للأعشاب والغطاء النباتي بشكلٍ عام، فقد أجرتْ شركة مونسانتو في مطلع الستينيات من القرن المنصرم بتكليفٍ من الجيش الأمريكي تجارب في غاية السرية والخطورة تهدف إلى إنتاج "سلاح"ٍ فتاك ومهلك للحَرْث والزرع ليقضي على الأعشاب والحشائش الطويلة والغابات التي يختبئ فيها المقاتل الفيتنامي فيمكن بعد ذلك مشاهدته ومراقبته وقتله، وبالفعل نجحت الشركة في تصنيع هذا السلاح المبيد للبشر والحجر والزرع، فنُقل مباشرة إلى ساحة القتال في براميل عليها علامات وخطوط بألوان مختلفة، منها اللون البرتقالي، فأُطلق منذ ذلك الوقت عليه بالعميل البرتقالي، ويُعرف حتى يومنا هذا تحت هذا المسمى.


 


وقد نفذ الجيش الأمريكي بدءاً من عام 1961حتى عام 1971 عملية عسكرية أَطلق عليها (Operation Ranch Hand) واستخدم طائرات خاصة للرش من السماء العليا هذه الأحجام الهائلة من الأمطار الصَرْصَر العاتية على رؤوس الشعب الفيتنامي الجنوبي، وغطت مساحات شاسعة من الغابات بلغت عشرات الآلاف من الكيلومترات المربعة، فلوث مبيد الدمار الشامل البر والماء والهواء والإنسان والشجر، فدخل مع الوقت إلى كل جزءٍ صغيرٍ أو كبيرٍ من مكونات البيئة الحية وغير الحية حتى وصل في نهاية المطاف بشكلٍ مباشر وغير مباشر إلى أعضاء جسم الإنسان، فمنهم من قضى نحبه وسقط فوراً صريعاً يقاسي من سمية هذا المبيد، ومنهم من نزل به المرض المزمن فأصبح يعاني طوال حياته من السقم والإعاقات الجسدية والتشوهات الخَلقية والعلل العقلية والنفسية. 


 


فهذا المبيد والمركبات الخطرة الموجودة فيه، وبالتحديد مجموعة المركبات القاتلة المعروفة بالديكسين، لم تُعرِّض الشعب الفيتنامي فقط للمخاطر البيئية والصحية، وإنما هدد حياة الملايين من الأمريكيين أنفسهم ومن اليابانيين والفلبينيين والكوريين من الذين عملوا وتعاونوا مع الجيش الأمريكي وتعاملوا بطريقةٍ أو بأخرى مع هذا العميل البرتقالي، فمنهم من قام بحمل براميل العميل البرتقالي إلى الطائرات، ومنهم من فتح هذه البراميل، ومنهم من قام برش المبيد من الطائرة، ومنهم من أفرغ البراميل الفارغة، ومنهم من حملها إلى الشاحنات، ومنهم من قام بتخزينها، ومنهم من قام بدفن هذه البراميل، فكل هؤلاء البشر كانوا فريسة سهلة وقعت ضحية لهذا المبيد.


 

وجدير بالذكر أن الشكوى ضد شركة مونسانتو أو الحكومة الأمريكية ممثلة في وزارة الدفاع ليست جديدة وليست من الفيتناميين فحسب، وإنما رفع عشرات الآلاف من المحاربين الأمريكيين القدامى الذي شاركوا في حرب فيتنام دعاوى قضائية ضد البنتاجون بسبب الأمراض والعاهات والإعاقات الجسدية والعقلية والنفسية التي تعرضوا لها أثناء الحرب، وبالتحديد نتيجة لاستخدامهم لهذا العميل البرتقالي، فعلى سبيل المثال، في 18 يونيو 2015 وبعد سنوات عجاف طويلة من المعارك القضائية وافقت الحكومة الأمريكية على تعويض 2100 أمريكي كانوا يعملون في السلاح الجوي ويتعاملون مع براميل العميل البرتقالي سواء بفتحها أو نقلها أو تخزينها أو رشها، سواء الذين كانوا في قواعد عسكرية داخل الولايات المتحدة الأمريكية أو الجنود الذين كانوا في ساحات القتال، والتعويض المالي بلغ 47.5 مليون دولار.

 

وهكذا نجد بأن هذا العميل الأمريكي لن يموت، وسيظل في ذاكرة الناس، وسيظل حلماً مرعباً وكابوساً ثقيلاً سيجثم فوق رؤوس الحكومة الأمريكية ويطاردهم بين الحين والآخر.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق