الاثنين، 6 مارس 2023

هل تم فك لغز المرض الأمريكي الغامض؟

منذ أن برز مرض هافانا الغامض على السطح، وبالتحديد منذ أغسطس 2016 في السفارة الأمريكية في العاصمة الكوبية هافانا، وأنا أُتابع وأراقب كافة التفاصيل المتعلقة بهذه المرض الغريب الذي أصاب الدبلوماسيين الأمريكيين، وأكتبُ عن التطورات التي تُستجد حول مصدر وأسباب هذه الظاهرة الصحية الجديدة والأعراض المرضية المتباينة والفريدة من نوعها، فأول مقال كتبتُه لسبر غور هذه الظاهرة المرضية كان في 29 أكتوبر 2017 تحت عنوان: "ماذا حدث لموظفي السفارة الأمريكية في كوبا".

 

ومنذ ذلك الوقت، أي منذ أكثر من سبع سنوات والقصة مازالت غامضة كما ظهرت منذ أول يوم، والتفسيرات حول انكشافها مازالت غير نهائية ولا يمكن علمياً الوثوق بها، ومصادر وأسباب الأعراض المرضية العقيمة التي تعرض لها أكثر من 1500 دبلوماسي وعميل أمريكي يعملون في هافانا بكوبا، أو في شنغهاي في الصين، أو في النمسا، أو كولومبيا مازالت تحت التحقيق والدراسة، ولم تنجح في فك رموز وشفرات هذه الحالات الصحية الغريبة( anomalous health incidents). 

 

فالدراسات والتحقيقات لإيجاد الأجوبة الصحيحة والوصول إلى الحقيقة وحل اللغز المحير لم تتوقف، وآخرها وردتْ في النشرة الإعلامية التي صدرت في الأول من مارس 2023، تحت عنوان: "بيان مدير الاستخبارات القومية حول تقييم مجتمع الاستخبارات عن الحالات المرضية الغريبة". فهذا التحقيق والتقييم الجديد شمل أكثر من 1500 حالة مرضية لموظفين أمريكيين يعملون خارج أمريكا في 96 دولة، واستغرق هذا التحقيق الذي أجرته سبع وكالات استخباراتية ست سنوات، وشمل دراسة شاملة ودقيقة لجميع الحالات التي وقعتْ بين عامين من 2016 إلى 2018، حيث وصف مدير وكالة الاستخبارات المركزية(سي أي إيه)( Central Intelligence Agency) بيل بارنز(Bill Burns) هذا التقرير قائلاً: "إنه التحقيق الأكبر والأكثر شمولية في تاريخ الوكالة، وهو يعكس أكثر من عامين من جمع المعلومات والأعمال الاستقصائية وتحليل هذه المعلومات من مجتمع الاستخبارات لكل ما يحيط بالحادثة قبل وأثناء وبعد وقوعها".

 

وهذا التقرير الأخير لمجتمع المخابرات عن الحالات المرضية الشاذة تم تصنيفه بأنه "سري"، حيث قُدم ملخص الاستنتاجات في البيان الصحافي الذي صرحت به مديرة الاستخبارات القومية، أفريل هاينز (Avril Haines) قائلة: "نحن اليوم نُشارككم جهود التحقيقات والاستنتاجات التي توصل إليها تقييم مجتمع الاستخبارات حول الحالات الصحية الغريبة"، كما ورد في النشرة: "معظم وكالات مجتمع الاستخبارات استنتج الآن بأنه من المستبعد بأن هناك جهة أجنبية تتحمل مسؤولية الحالات المرضية الغريبة التي تعرض لها بعض الدبلوماسيين..... ومازالت هناك ثغرات قائمة بسبب التحديات المحيطة بجمع المعلومات من الجهات الأجنبية". كذلك استنتج التقرير حسب ما ورد في البيان بأن: "الأعراض التي انكشفت على الدبلوماسيين من المحتمل أن تكون لعوامل لا علاقة لها بجهات أجنبية عدائية، مثل الحالات المرضية التي كانوا يعانون منها سابقاً، أو أمراض معروفة مسبقاً، أو عوامل بيئية".

 

فهذا التحقيق الشامل استبعد إحدى النظريات والتفسيرات التي كانت مطروحة بقوة من قبل، والتي تتمثل في وجود سلاحٍ أجنبي خارجي وعدائي تعرض له الموظفون، مثل "السلاح الصوتي"، أو "سلاح الأشعة الكهرومغناطيسية"(pulsed electromagnetic energy) الذي تنبعث منه طاقة وموجات في مجال الميكروويف، أو ترددات الراديو(radio-frequency energy). ففي 30  أغسطس 2018 نُشرت دراسة في مجلة "الكهرومغناطيسية الحيوية"(Bio Electro Magnetics) وخلصت إلى أن التعرض لأشعة الميكروويف الموجودة في أفران الميكروويف التي نستخدمها لتسخين الطعام وفي الهواتف النقالة قد يُفسر هذه الأعراض المرضية الغريبة التي أُصيب بها الوفد الأمريكي في كوبا والصين، فعندما يتعرض الإنسان لأشعة الميكروويف المُركزة والشديدة فإنه سيحس بالضوضاء العالية والأصوات المرتفعة، وينعكس هذا على الأمن الصحي من حيث الشعور بالصداع والإغماء والإرهاق ثم تلف وارتجاج في المخ، حسب الدراسة المنشورة في 20 مارس 2018 في مجلة جمعية الأطباء الأمريكيين حول "بيانات عصبية للمسؤولين الحكوميين الذين أفادوا لتعرضهم لظواهر صوتية وحسية في كوبا"، حيث تم فحص وتقييم 21 دبلوماسياً أمريكياً كانوا يعملون في كوبا، وأشارت الدراسة إلى أن شكوى هؤلاء العاملين في السفارة الأمريكية في كوبا تفيد بتعرض هؤلاء الأفراد لخلل في شبكات المخ، وأفادت بأن هذه الأعراض تُشبه من تعرض لحادثة ارتجاج في المخ جراء حادثة سيارة، أو السقوط من مكان مرتفع، أو حدوث انفجار، ولكن الدراسة لم تحدد مصدر وأسباب هذه الحالة المرضية.

 

كما أن البحث المنشور في أكتوبر 2018 في مجلة الحسابات العصبية (Neural Computation) يُقدم الإثباتات والدلائل العلمية التي تؤشر إلى أن "الهجوم بأشعة الميكروويف" هو السبب وراء مرض الأمريكيين.

 

كذلك نُشر تقرير في السادس من ديسمبر 2020 من "الأكاديميات القومية للعلوم والهندسة والطب"(National Academies of Sciences, Engineering, and Medicine) بعنوان: "تقييم مرض موظفي الحكومة الأمريكية وعائلاتهم في السفارات الخارجية". وهذا التقرير قام به فريق مكون من 19 خبيراً من تخصصات متعددة منها علم الأعصاب والإشعاع وغيرهما، وتكون التقرير من 64 صفحة، وجاءت الاستنتاجات الختامية حسب ما ورد في التقرير بأن: "الأعراض التي تم كشفها على أول حالة في السفارة الأمريكية في مدينة هافانا بكوبا كانت تتمثل في الاستيقاظ من النوم والشعور بآلام شديدة وضغط شديد في الوجه، والاحساس بوجود صوتٍ حاد ومرتفع جداً في أحد الأذنين، ثم فقدان التوازن والإغماء. وبعد أيام انكشفت أعراض أخرى تتمثل في مشكلات واضطرابات في الرؤية، وصعوبات ذهنية وعقلية، وفقدان في السمع، وصداع مزمن، والشعور بالتعب والإرهاق، وفقدان الذاكرة"، كما جاء في التقرير بأن: "لجنة الخبراء تَشعر بأن الأعراض التي أصابت الدبلوماسيين تتوافق مع التأثيرات للتعرض المباشر للأشعة الكهرومغناطيسية في مجال طاقة وترددات الراديو والميكروويف. كما جاء أيضاً في التقرير: "يبدو أن ذبذبات ترددات الراديو الموجهة هي الآلية الأكثر قبولاً لتفسير هذه الحالات المرضية التي تمت دراستها من قبل اللجنة، إضافة إلى تأثيرات الحالات النفسية لهؤلاء الموظفين".

 

ولذلك وبعد مضي أكثر من سبع سنوات على هذه الحالات الصحية الغريبة، وبعد الكثير من الدراسات والتحقيقات التي لم تنته بعد، ولم تُنشر نتائجها حتى الآن، إلا أن الغموض مازال يحوم حول هذه الظاهرة الغريبة. والخلاصة التي أستطيع أن أُقدمها لكم هي أن الوقائع المرضية صحيحة، والحكومة الأمريكية جادة في فك شفراتها وتؤكد على ذلك من خلال عدة مؤشرات منها تعويض المتضررين مادياً، ومنها موافقة مجلس النواب بالإجماع في 21 سبتمبر 2021، وهذه من الحالات النادرة أن يكون هناك إجماع في المجلس وموافقة من الحزبين، على قانون هافانا(Helping American Victims Afflicted by Neurological Attacks Act)، حيث وقَّع بايدن على القانون في 8 أكتوبر 2021 وقال متعهداً بإيجاد حل لهذه الحالات: "أنا سعيد بالتوقيع على قانون هافانا من أجل ضمان بأننا نقوم كل ما في وسعنا لمساعدة أفراد الحكومة الأمريكية الذين يعانون من الحالات الصحية الغريبة"، كما أضاف: "مواجهة هذه الحالات هي من الأولويات الرئيسة لإدارتي". 

 

والأيام القادمة قد تكون كفيلة بإزالة النقاب عن اللغز المحير الذي يحيط بهذا المرض الغامض.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق