الخميس، 22 ديسمبر 2022

هل نحن في مأمن من التلوث عندما نكونُ في عُقر دارنا؟


يظن الكثير من الناس أنهم إذا دخلوا منازلهم وأغلقوا على أنفسهم الأبواب والنوافذ فإنهم قد أمنوا من شر الملوثات، وأنهم قد أصبحوا في عزلةٍ تامة وفي بيئة نظيفة وسليمة خالية من أية شوائب وسموم.

 

فالنظرة السائدة عند عامة الناس والانطباع الخاطئ هو أن مصادر التلوث موجودة فقط في خارج المنزل، وأن البيئة المنزلية أو البيئات المغلقة بشكلٍ عام لا توجد بها أية مصادر تُعكر من صفو هوائها، وتفسد نقاوتها، وتؤثر على نوعيتها وجودتها.

 

ولذلك تطورت فكرة غير صحيحة مع الوقت بأن الأمراض التي نُصاب بها تنزل علينا في أغلب الحالات من خارج المنزل عند التعرض للملوثات من مصادرها التي لا تعد ولا تحصي من سيارات، ومصانع، ومحطات توليد الكهرباء، ولكن بعد أن اتجهت أنظار العلماء نحو البيئات الداخلية، وبدأوا في إجراء الدراسات على مصادر التلوث الكيميائي والحيوي في هذه البيئات، تأكد لهم بأننا لسنا بمنأى عن التلوث، ولسنا بعيدين عن التعرض لشتى أنواع الملوثات من الداخل، والتي بعضها موجود في البيئات الخارجية. كما اكتشف العلماء بأن هناك أمراضاً خاصة يمكن أن نسقط فيها بسبب تدهور نوعية البيئة الداخلية وتشبعها بمصادر التلوث المختلفة، أي أن هذه الأمراض متعلقة مباشرة بالبيئة الداخلية وليست لها علاقة مباشرة بمصادر التلوث في البيئات الخارجية.

 

ومن هذه الأمراض المرتبطة بتدهور نوعية البيئة الداخلية، والتي اعترفت بها منظمة الصحة العالمية كمرض مستقل في حد ذاته هو مرض المباني المغلقة(Sick Building Syndrome). وهذا المرض العصري يصيب سكان العمارات والمباني المغلقة والمُحكمة، فلا توجد تهوية مباشرة وقوية، سواء أكانت طبيعية أو ميكانيكية تُجدد وتغير من الهواء الجوي الموجود في هذه البيئة الداخلية، فالنوافذ لا يمكن فتحها والأبواب مغلقة من أجل توفير وترشيد استهلاك الطاقة، وفي الوقت نفسه هناك مصادر داخلية تنبعث منها الملوثات بدرجة منخفضة، مثل دهان الجدران، والأثاث، والسجاد، والأجهزة المكتبية، والرطوبة العالية التي تسبب في نمو العفن والفطريات على الجدران والأسقف. ولكن كل هذه المظاهر بسبب عدم تجدد الهواء تتراكم يوماً بعد يوم ويزيد تركيزها في هواء المبنى حتى تُعرض الإنسان للضرر الصحي المزمن، ويصاب الناس في هذه المباني بأعراض متعددة ولكنها متجانسة، منها الصداع، والحساسية، وضيق التنفس.

 

فهذه الحالة المرضية المزمنة الخاصة بالبيئات الداخلية، وحالات أخرى مشابهة، وجهت أنظار العلماء منذ أكثر من ثلاثة عقود إلى دراسة مصادر التلوث، والتعرف على تركيز الملوثات في هذه البيئات وأنواعها ومصيرها عندما تنبعث داخل المنزل أو المبنى، إضافة إلى التأثير الصحي لوجود هذه الملوثات على الإنسان، وكيفية منعه والتخلص كلياً من تداعياته.

 

وقد اكتشف العلماء بأن هذه القضية البيئية الصحية معقدة جداً ومتشابكة مع عوامل ومتغيرات كثيرة تختلف من حقبة زمنية إلى أخرى، وتختلف من منزلٍ إلى آخر، ومن مدينة إلى مدينة أخرى، كما تختلف من بلد إلى آخر اعتماداً على عادات وسلوكيات الناس ووضعهم المادي، إضافة إلى المواد والأجهزة ونوع الوقود الذي يستخدمه الناس في منازلهم.

 

أما بالنسبة للعامل التاريخي، فملوثات الأمس تختلف عن ملوثات اليوم، فهناك ملوثات تقليدية قديمة وهناك ملوثات جديدة تنكشف بين الحين والآخر. فعلى سبيل المثال، في مطلع القرن الماضي كان الناس يستخدمون الدهان العضوي والذي يحتوي على الرصاص لصباغة جدران منازلهم، فنجم عن هذا ارتفاع خطير في تركيز الملوثات العضوية المتطايرة السامة في هواء المنزل، إضافة إلى تسمم هواء وأرضية المنزل بعنصر الرصاص السام، فانعكس فساد الهواء وتدهور نوعية الغبار المنزلي إلى ارتفاع تركيز الرصاص في دماء سكان هذه المنازل، وبخاصة الأطفال، ونزلت عليهم الأمراض العضوية والنفسية والسلوكية المتعلقة بتراكم الرصاص في أعضاء جسم الأطفال.

 

أما في العقود القليلة الماضية ومع انتشار استخدام المنتجات البلاستيكية في جميع المجالات، وبخاصة المنتجات البلاستيكية المنزلية من أقمشة البولي إستر البلاستيكية، أو أرضية الفاينل، أو الأثاث، فإن الملوثات البلاستيكية الحديثة، وبالتحديد الملوثات والجسيمات الميكروبلاستيكية الدقيقة التي قد لا ترى بالعين المجردة دخلت مشهد التلوث في المنازل، وأصبحت الآن من أهم مصادر تدهور نوعية الهواء المنزلي خاصة، والبيئات الداخلية المغلقة عامة.

 

فعلى سبيل المثال، نُشرت دراسة ميدانية في 28 نوفمبر 2022 في مجلة "علوم وتقنية البيئة" تحت عنوان:" الميكروبلاستيك في الهواء في البيئات الداخلية والخارجية في الدول النامية في جنوب آسيا". وهذه الدراسة شملت الجسيمات البلاستيكية التي قطرها يتراوح من 50 إلى 5000 ميكروميتر في الهواء الجوي في المنازل في سيريلانكا. وقد خلصت الدراسة إلى أن تركيز الملوثات الميكروبلاستيكية داخل المنزل كان أعلى من الخارج فتراوح بين 0.13 إلى 0.93 مقارنة بـ 0.23 جسيم ميكروبلاستيكي لكل متر مكعب في الهواء في الخارج، كما تراوح قطر الجسيمات بين 100 و 300 ميكروميتر، ومعظم هذه الملوثات البلاستيكية كانت من أنسجة البولي إيثلين تربثليت، والبولي إستر الذي يدخل في صناعة الأقمشة.

 

أما بالنسبة لتأثير العادات والتقاليد وسلوكيات الناس على نوعية وتركيز الملوثات في هواء المنازل والبيئات الداخلية، فأقدم لكم مثالاً واحداً فقط نابعاً من تقاليدنا في دول الخليج وفي بعض الدول الآسيوية، وهو حرق البخور والعود والأنواع الأخرى منه. فحرق البخور، حسب الدراسة التي قُمت بها تنبعث عنه ملوثات كثيرة منها الدخان، أو الجسيمات الدقيقة، ومنها الملوثات العضوية المتطايرة، وبعض هذه الملوثات يُصنف كمواد تسبب السرطان مثل الجسيمات الدقيقة، والفورمالدهيد، والأسيتالدهيد، والبنزين، والطولوين، إضافة إلى تأثير الملوثات المنطلقة من البخور والعود بشكلٍ على الجهاز التنفسي والإصابة بأمراض الحساسية. وهذا التقليد المنتشر في حرق البخور ينطبق على سلوك الناس في التدخين في البيئة الداخلية، حيث يُجمع العلماء بأن التدخين يسبب أكثر من 12 نوعاً من السرطان، وحرق البخور والعود لا يقل خطورة على البيئة الداخلية وعلى صحة الإنسان.

 

كذلك فإن نوعية الوقود المستخدم في البيئات الداخلية، سواء للطهي في المواقد أو التدفئة، له تداعيات مباشرة على جودة الهواء المنزلي وصحة الناس. فحرق الأخشاب، أو المخلفات الحيوانية، أو الفحم يُعد من أشد أنواع الوقود فساداً لجودة الهواء، وأكثرها تنكيلاً بالصحة العامة، في حين أن أفضل الممارسات للطهي من الناحيتين البيئية والصحية هو الفرن الكهربائي، ثم الفرن الذي يعمل بالغاز الطبيعي، علماً بأن دراساتي أكدت وجود تلوث الهواء بغاز ثاني أكسيد النيتروجين عند استخدام الغاز، وأن معدل تركيزه في المنزل، وبخاصة في المطبخ أعلى من خارج المنزل.

 

فمن هذا التحليل السريع لقضية حالة البيئة في المنزل وغيره من البيئات الداخلية شبه المغلقة، أستطيع أن أستنتج بأن حالة البيئة تختلف من منزلٍ إلى آخر في المدينة نفسها، وفي الدولة نفسها أيضاً، وأن هناك الكثير من العوامل الاجتماعية والاقتصادية، والجغرافية، إضافة إلى مواد البناء والمواد الاستهلاكية التي تُستخدم أو تُوضع في المنزل، وجميعها مع بعض تلعب دوراً تراكمياً وتعاونياً في إحداث هذه التغيرات البيئية المنزلية والتي تنعكس مع الزمن صحياً على الناس.

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق