الأحد، 8 ديسمبر 2019

المال والسلطة أهم من صحة الإنسان وبيئته!


في كل يوم تزداد قناعتي بأن رجال السياسة والنفوذ والرجال المعنيين بسن التشريعات والقوانين، وبخاصة في الدول الديمقراطية، لا يهمهم إلى أنفسهم أولاً ثم مكانة وقوة الأحزاب التي ينتمون إليها، فالقرارات التي يتخذونها والتصريحات التي يُدلون بها تأخذ في المقام الأولى الاعتبارات الشخصية والحزبية، وبعدها تَكُون الأولوية لتحقيق النمو الاقتصادي للشركات العملاقة الكبرى التي تسيطر عادة على مسيرة الانتخابات وتتحكم في نتائجها، حتى ولو كان هذا النمو للشركات على حساب الصحة العامة للناس، أو سلامة وأمن البيئة ومكوناتها الحية وغير الحية.

فهذه المؤسسات والشركات متعددة الجنسيات والشخصيات الثرية والمتنفذة هي التي توفر المال والدعم للأحزاب والأفراد التي تدخل الانتخابات فتضمن لها الفوز الكاسح، سواء على مستوى رئاسة الدولة، أو الحكومة، أو عضوية البرلمانات والمجالس التشريعية، فلذلك فإنها تتوقع رد الجميل ورعاية مصالحهم عند الانتهاء من الانتخابات وفوز مُرشحهم الذي قاموا بتقديم الدعم المالي له.

فعلى سبيل المثال، الشركات التي تمتلك الفحم والنفط تفرض على من يفوز في الانتخابات دعم جميع القضايا المتعلقة بهذين المصدرين للطاقة والكهرباء، من حيث تشجيع استخدامهما من جهة، ومن جهة أخرى العمل على فك الحزام عن الأنظمة والتشريعات البيئية أو الصحية التي تقيِّد، أو تخفض من الاستعمال وتجعلها أكثر مرونة وليونة تجاه الانبعاثات والملوثات التي تنطلق أثناء احتراق البترول ومشتقاته أو الفحم، ولذلك نجد أن قضية التغير المناخي المرتبطة بأمن الطاقة واستعمال الوقود الأحفوري الناضب لا تجد لها مخرجاً للحل الجماعي الدولي المشترك منذ أكثر من ثلاثين عاماً من المفاوضات الماراثونية بين دول العالم.

وإذا كانت هذه الشركات تُصنِّع الأدوية والعقاقير فأنها تتوقع من ممثلها في البرلمان أو في الحكومة أن يكون العامل المساعد المؤثر في سرعة الموافقة على الأدوية الجديدة لطرحها في الأسواق حتى لو لم تكتمل الإجراءات اللازمة والخاصة بالموافقة على استخدام الإنسان لهذا الدواء الجديد، أو في الوقت نفسه الحصول على خدمات لتسهيل التسويق والبيع لمنتجات الأدوية.

وهناك أمثلة كثيرة يمكن تقديمها لإثبات وجود هذه الظاهرة العامة في دول العالم بدرجات متفاوتة تختلف في حدتها ووضوحها من دولةٍ إلى أخرى. وآخر مثال أضربه لكم هو ما يحدث اليوم في الولايات المتحدة الأمريكية بالنسبة لآفة السجائر الإلكترونية التي بدأت تنخر في جسم المجتمع الأمريكي، وبخاصة بين فئة الشباب وصغار السن.  

فمن المعروف الآن لدى الجميع في الولايات المتحدة الأمريكية وفي باقي دول العالم المرض الرئوي الغامض الذي أُطلقَ عليه مرض السجائر الإلكترونية (E-VALI or VALI) والذي ضرب فئة الشباب خاصة بسبب تدخينهم للسجائر الإلكترونية في الولايات المتحدة الأمريكية، حيث مرض حتى الآن 2051 من 48 ولاية ومات منهم 38 حالة.

وكردة فعل سريعة لهذه الحالة الصحية العصيبة التي يمر بها المجتمع الأمريكي بسبب تدخين السجائر الإلكترونية، فقد أعلن الرئيس الأمريكي ترمب وهو جالس في البيت الأبيض في المكتب البيضاوي في 11 سبتمبر بأنه سيتخذ الإجراءات اللازمة لمكافحة هذا الوباء المميت وإبعاد الشباب وطلاب المدارس عن تدخين هذا النوع الجديد من السجائر، وتعهد أمام الملأ بإصدار القرارات اللازمة للحد من هذه الظاهرة الصحية البيئية الخطيرة، وقال أثناء هذا الاجتماع: "لا نُريد أطفالنا أن يتأثروا إلى هذه الدرجة"، وأضاف قائلاً: "لا نستطيع أن نسمح للناس بأن يصابوا بالأمراض". واستناداً إلى هذه التعهدات الواضحة والتوجيهات الحازمة من الرئيس ترمب، فقد قامت الجهات المعنية بالعمل فوراً لإعداد صيغة القرار الذي يمنع بعض النكهات والمذاقات التي تجذب الشباب خاصة في السجائر الإلكترونية، ووضعه على جدول أعمال الرئيس للتوقيع.

ولكن شركات السجائر الإلكترونية خاصة وشركات التبغ عامة التي استثمرت في السجائر الإلكترونية ووضعت المليارات من الدولارات في هذه الشركات، إضافة إلى جماعات الضغط أو اللوبي الخاص بهذه الشركات لم تقف مكتوفة الأيدي، ولم تبق متفرجة حائرة لا حيلة لها حتى يَصدر قرار الرئيس،  فبعد أن سمعت بهذه النية المستقبلية من الرئيس الأمريكي، شمرت عن يديها، وجهزت كل قواتها، واستنفرت جنودها في الكونجرس وفي الجهات الأخرى لمواجهة هذا القرار المرتقب، وحركت أذرعها الإعلامية لتلميع صورة هذه السجائر، كما هددت ضمناً ترمب بأن مثل هذا القرار سيكلفه غالياً وسيكون له تداعيات سياسية قاتلة، وبالتحديد سقوطه في الانتخابات الرئاسية القادمة إضافة إلى سقوط الجمهوريين في الانتخابات القادمة.

وبعد أيام قليلة، أتت هذه الجهود أكلها وأثمرتْ، ففي الرابع من نوفمبر، وترمب على متن طائرته المتجهة إلى ولاية كنتكي للمشاركة في لقاء جماهيري كبير، تراجع وانسحب عن توقيع القرار المتعلق بالسجائر الإلكترونية، وقال بأن القضية يجب أن تخضع للمزيد من الدراسة، كما ألغى في الوقت نفسه جميع ارتباطاته واجتماعاته المتعلقة بالإعلان عن منع السجائر الإلكترونية ووجه الجهات المعنية للتنفيذ، كذلك أكد في تغريدة نشرها في 11 نوفمبر بأنه "سيقابل ممثلين من قطاع صناعة السجائر الإلكترونية، وبوجود أطباء وممثلين من الولايات من أجل الوصول إلى حلٍ مرض لمعضلة السجائر الإلكترونية"، وفي 22 نوفمبر عقد هذا الاجتماع في البيت الأبيض حيث حذر ترمب من منع بيع النكهات في السجائر الإلكترونية قائلاً بأن المنع سيخلق سوقاً سوداء لا يمكن التحكم فيها.

ولذلك من الواضح أن الضغوط التي مُورست على الرئيس ترمب، وتخويفه من التأثيرات السلبية الاقتصادية والسياسية التي ستنجم عن القرار عليه شخصياً وعلى حزبه الجمهوري، اضطرته إلى تغيير رأيه وإعطاء الأولوية لشخصه وحزبه ثم مصالح الشركات على حساب الصحة العامة وتقديم الاقتصاد والمال على حساب صحة الإنسان وأمنه البيئي.

وهذه الظاهرة غير الصحية وغير المستدامة موجودة في كل دول العالم بدون استثناء ولكن بدرجاتٍ متفاوتة، فعلى سبيل المثال كل دول العالم، ونحن منهم في البحرين نقوم ببيع السجائر، ومن المعروف عند الجميع بأن السجائر سامة وتُسقط الإنسان في مرض السرطان القاتل حتى أن عُلبة السجائر نفسها مكتوب عليها عدة عبارات هي:
"دخان التبغ يؤذي الجنين وقد يؤدي لنقص الوزن عند الولادة أو الولادة المبكرة".
"التدخين يسبب الوفاة المبكرة".
"التدخين يحرق أعضاء الجسد بأكثر من 25 مرضاً بما في ذلك السرطان والأمراض القلبية".

فكيف إذن بعد كل هذا نُبرر بيع السجائر في بلادنا؟ وما هو الدافع لذلك غير الجانب الاقتصادي وإدخال مبلغٍ زهيد من المال في ميزانية الدولة؟

 فهذا المثال يؤكد بأن البعد الاقتصادي يَتقَدم، وله الأولوية على البعد البيئي والصحي وحماية الناس من الأمراض والموت المبكر.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق