الخميس، 24 مارس 2022

المناطق المنكوبة بيئياً حول العالم


عندما كنتُ أستاذاً في جامعة الخليج العربي، تلقيتُ دعوة من سفارة جمهورية ألمانيا الاتحادية في البحرين لزيارة ألمانيا بهدف الاطلاع على أهم القضايا البيئية التي تواجهها، والاستفادة من خبرات هذه الدولة العريقة في إدارة هذه القضايا، والسياسات البيئية التي تتبعها للتعامل معها وعلاجها.

 

ومن أهم المواقع والمدن التي زُرتها أثناء هذه الجولة البيئية في نوفمبر 1992 كانت لمدن ألمانيا الشرقية، أي بعد نحو عامين من تدمير وإزالة سور برلين الذي كان يفصل بين الجزء الشرقي والغربي من ألمانيا، حيث شاهدت بأم عيني، ولمست عن قرب نتائج السياسات والممارسات غير المستدامة التي كانت مُتبعة في بعض مدن ألمانيا الشرقية، والتي ألحقت ضرراً شديداً متأصلاً ومتغلغلاً في كافة مكونات البيئة الحية وغير الحية، وانتقلت هذه الأضرار إلى إهدار الأمن الصحي للسكان، وتكونت مواقع في هذه المدن تهدد سلامة البيئة والصحة العامة على حدٍ سواء، فأَطلقتُ عليها المناطق المنكوبة بيئياً وصحياً.

 

ومن هذه المناطق المنكوبة الكثيرة، أختارُ لكم منطقة يُطلقُ عليها السكان بالمثلث القاتل، أو المثلث الاسود، وتتكون من ثلاث مدن صناعية على شكل مثلث، وهي مدينة ليبزج، وهاله، وبترفيلد. ومن المواقع المشهودة التي تؤكد الأزمة البيئية الخانقة في مثلث الموت هي بحيرة تسمى زيلبرزي(Silbersee)، أو بحيرة الفضة. فعند وصولي إلى البحيرة وجدتُ لوحة مكتوب عليها: "ابتعد! هناك خطر على حياتك"، حيث كانت مقفلة بسورٍ حديدي يمنع الاقتراب منها، فقد كانت لسنوات طويلة مقبرة جماعية للنفايات الصناعية السائلة، ومياه المجاري من المصانع والمنازل، ولذلك لم تستطع هذه البحيرة المغلوبة على أمرها أن تقاوم هذه السموم التي ترمى في بطنها، فضعفت، وانهارت قواها ثم ماتت، وماتت الحياة فيها، ولم يبق على الانسان إلا أن ينقلها الى مثواها الاخير !

 

ومثل هذه المناطق المنكوبة بيئياً وصحياً ليست من ذكريات ومظاهر الماضي، وإنما هي موجودة وبكثرة في العديد من دول العالم، سواء أكانت غنية ومتقدمة، أم فقيرة ومتأخرة. وقد تنبه مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إلى هذا التهديد البيئي الصحي العام للإنسانية في هذه الدول، كما تنبه إلى حقيقة مهمة جداً هي أن مثل هذه المناطق المنكوبة تعتبر تعدياً صارخاً لحقوق الإنسان الأساسية، والمتمثلة في حق الإنسان في العيش في بيئة صحية ونظيفة ومستدامة.

 

فقد تم توزيع تقرير من المقرر الخاص حول قضايا حقوق الإنسان المتعلقة بالتمتع ببيئة آمنة، نظيفة، صحية، ومستدامة، تحت عنوان: "الحق في بيئة نظيفة، صحية، ومستدامة: بيئة غير سامة"، في 12 يناير من العام الجاري على اجتماع الجمعية العمومية للأمم المتحدة، ثم عُرض التقرير نفسه على مجلس الأمم المتحدة لحقوق الإنسان في أعمال دورته التاسعة والأربعين في جنيف في الفترة من   28 فبراير إلى الأول من أبريل من العام الجاري. 

 

فهذا التقرير يصف ظاهرة المناطق المنكوبة المستمرة منذ زمن طويل، والمتعلقة بقضية العدالة البيئية بين البشر في كل أنحاء العالم، حيث إن حالة عدم المساواة البيئية، وفقدان العدالة البيئية وتَرسُخ ممارسة العنصرية البيئية، ولَّدت هذه المناطق المنكوبة شديدة التلوث، ويُطلقُ عليها التقرير "مناطق التضحية"(sacrifice zones). وقد تم تخصيص الجزء الثالث من التقرير تحت عنوان: "فقدان العدالة البيئية ومناطق التضحية" لمناقشة وبيان تفشي ظاهرة هذه المناطق المنكوبة، إضافة إلى تقديم قائمة لهذه المواقع في مختلف دول العالم.

 

وعادة ما يكون سكان هذه المناطق في مدن العالم من الفقراء وغير المتنفذين، ومن الطبقات السفلى وغير المتعلمين في المجتمع، ولذلك ليست لديهم القدرة المالية، أو السياسية، أو الوعي بحقوقهم للدفاع عن أنفسهم ضد هذه العنصرية البيئية والتمييز الممنهج والمتعمد في أغلب الأحيان.

 

وبالرغم من أن مثل هذه المناطق المنكوبة، أو "مناطق الضحية" كانت مرتبطة سابقاً، ومنذ السبعينيات من القرن المنصرم بالمناطق التي أُجريت فيها التفجيرات والتجارب النووية فتحولت إلى مناطق ذات إشعاع مرتفع ومهلك لصحة البشر والحجر، إلا أن هذه المناطق معظمها الآن قد تغيرت في نوعيتها، فهي تكون مواقع صناعية، أو مواقع لدفن المخلفات الصلبة البلدية والصناعية، أو مواقع للتخلص من القمامة المنزلية ودفنها، أو محارق المخلفات، ومثل هذه المواقع قد تشبعت بها معظم مدن العالم.

 

ولذلك كان لا بد من المنظمات الحقوقية الدولية المهتمة بحقوق الإنسان التقليدية المعروفة من الناحية الاجتماعية، والسياسية، والتعليمية، أن تتحرك لتتناول قضية حقوق الإنسان من الناحية البيئية المرتبطة بالتمتع في العيش في بيئة سليمة وصحية غير ملوثة، وشرب مياه نقية وصافية، واستنشاق الهواء النظيف الصحي. وقد جاء الاعتراف الأممي الرسمي الأول بهذا الحق في القرار رقم (48/L.23) حول "حق الإنسان في بيئة آمنة، نظيفة، صحية ومستدامة"، والذي صدر في الثامن من أكتوبر 2021 من مجلس حقوق الإنسان التابع للأم المتحدة. كما شجع المجلس في قراره التاريخي الدول إلى تبني سياسات مناسبة على المستوى الوطني للتمتع بالحق في بيئة آمنة، نظيفة، صحية، ومستدامة، ويتضمن ذلك احترام التنوع الحيوي والأنظمة البيئية. كذلك دعا القرار الجمعية العامة للأمم المتحدة لأخذ هذا الأمر في الاعتبار والعمل مع بعض لتفعيل هذا الحق الإنساني المشترك والجديد.

 

وانطلاقاً من هذه القرارات النابعة من منظمات الأمم المتحدة حول حقوق الإنسان البيئية، ومواكبة من البحرين لأحدث القوانين المتعلقة بالبيئة، كنتُ أتمنى أن يكون دستور مملكة البحرين رائداً ومبادراً في وضع مادة محددة تتناول هذا الحق الإنساني، فالمادة الوحيدة الموجودة في دستورنا حول حماية البيئة بشكلٍ عام هي المادة التاسعة(ح)، والتي جاء فيها: "تأخذ الدولة التدابير اللازمة لصيانة البيئة والحفاظ على الحياة الفطرية"، وهي المادة نفسها الموجودة في ميثاق العمل الوطني. كما كنتُ أتمنى من قانون البيئة الجديد رقم 7 لسنة 2022 بشأن البيئة، والذي صدر في 15 مارس، أن يتفادى هذه الثغرة القانونية فيُخصص بنوداً واضحة حول حق المواطن في التمتع بمكونات بيئية صحية ومستدامة، سواء أكانت الهواء، أو الماء، أو التربة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق