الاثنين، 2 يوليو 2018

هل سوء إدارة القمامة يهز أمن الدول؟


قبل أكثر من ثلاثين عاماً وضعت نظرية ملخصها بأن القضايا والمشكلات البيئية والهموم البيئية وشؤونها وهمومها اليومية لو تُركت دون رعاية واهتمام وأُهملت من قبل الجهات المسؤولة فإنها قد تُسهم بشكلٍ فاعل ومؤثر على زعزعة أمن الدول وتهديد استقرارها وإثارة أعمال الشغب والعنف.

 

والآن أعتقد جازماً بأن هذه لم تَعُد نظرية وافتراض مني شخصياً، وإنما أصبحت من الحقائق المعروفة والتي تؤيدها الوقائع التاريخية المعاصرة، وتثبتها الحوادث الميدانية التي شهدناها في السنوات القليلة الماضية، فالحوادث والوقائع التي نراها أمامنا هي بالنسبة لي كالمختبر الذي أقوم فيه بتجاربي وأثبت نظرياتي، فلا ريب إذن عندي ولا شك بأن القضية البيئية تتحول مع الوقت وبشكلٍ تدريجي إلى قضية سياسية بحتة وقضية تنعكس مباشرة على أمن وسلامة الدول.

 

فهناك دورة وحلقة كاملة أُطلق عليها بـ "دورة المشكلة البيئية"، حيث إن أية قضية، أو مشكلة بيئية تبدأ في المرحلة الأولى كظاهرة بيئية بسيطة يكتشفها العلماء والباحثون من خلال التجارب والتحاليل الميدانية لنسبة وهوية الملوثات في الأوساط البيئية وتأثير هذه الملوثات على صحة البيئة والحياة الفطرية، ومع تراكم هذه الملوثات وتضخم تركيزها والسماح لها بالنمو والازدياد، تبدأ أضرار هذه الملوثات تنتقل من عناصر البيئة والحياة الفطرية النباتية والحيوانية إلى الإنسان، وعندئذٍ تتحول إلى قضية صحية فينتقل الاهتمام بها من علماء البيئة إلى الأطباء والمهتمين بالصحة العامة للإنسان، ومع مرور الوقت وضعف الاهتمام بهذه المشكلة وعدم وأدها منذ ولادتها والقضاء عليها من جذورها تتفاقم هذه المشكلة فتمتد أياديها وتتوسع أضرارها على منطقة بيئية أوسع وعلى عدد أكبر من البشر، ثم تدخل هذه القضية البيئية الصحية في مرحلة أشد تعقيداً وأكثر تأثيراً عندما تتبناها وسائل الإعلام وتحولها إلى قضية رأي عام وطنية فيتلقفها رجال السياسة كل حسب أجندته الشخصية والحزبية، وبعدها إذا لم تحل هذه القضية ولم تعالج كلياً فينجم عنها سخط الناس وغضبهم وخروجهم إلى الشوارع وارتكاب أعمال العنف وزعزعة الأمن العام.

 

هذا "السيناريو" الذي وضعته أمامكم وقع أمامي ورأيته في مشاهد كثيرة وفي مدن مختلفة عبر الثلاثين سنة الماضية، كان آخرها القضية البيئية في لبنان والتي أُطلق عليها بأزمة القمامة التي دارت أحداثها المؤسفة العنيفة لأشهر طويلة منذ يوليو عام 2015، واستدعت هذه الأزمة البيئية الأمنية عقد اجتماعٍ طارئ غير عادي لمجلس الوزراء للنظر فيها وفي ملابساتها وسبل تهدئة الناس وامتصاص غضبهم ونقمتهم على حالة القمامة في عاصمتهم وانتشارها في الطرقات والأحياء، علماً بأن تداعياتها باقية حتى يومنا هذا، فنسمع ونقرأ عنها بين الحين والآخر لعدم علاج هذه الأزمة من أعماق جذورها، وإنما كان الحل سطحياً ومؤقتا وجاء على شكل جرعةٍ مهدئة سريعة ما لبثت أن انتهى مفعولها. 

 

واليوم قرأتُ تحقيقاً شاملاً في مجلة النيوزويك الأمريكية منشوراً في 13 يونيو من العام الجاري تحت عنوان :"هل ستُسقط القمامة الرئيس الروسي بوتين؟"، حيث قدَّم لي هذا التحقيق الصحفي دليلاً دامغاً جديداً على صحة نظريتي، وأنها بالفعل أصبحت الآن "حقيقة بيئية" لا غبار عليها.

 

فهذا التحقيق الميداني يتحدث عن سوء إدارة القمامة في العاصمة الروسية موسكو، وتأثير هذه الحالة بشكلٍ مباشر على صحة عناصر البيئة من هواء وتربة ومياه سطحية، إضافة إلى الأمراض التي نزلت على بعض السكان الذين يعيشون بالقرب من مقابر القمامة. فقد أكد التقرير على وجود جبالٍ من القمامة متراكمة فوق بعضها البعض لفترة طوية من الزمن في مواقع الدفن القريبة من الأحياء السكنية والمدارس، بحيث أن الروائح العفنة والكريهة بدأت تتصاعد منها من جهة والسوائل الخطرة الناجمة عن تحلل القمامة من جهة أخرى بدأت تسيل كالأنهار فتصب في المسطحات المائية فتسممها وتلوثها بالمواد الكيميائية الخطرة وتهدد الأمن الصحي لسكان المنطقة الذين بدأوا بالتذمر وإبداء سخطهم وغضبهم على هذا الوضع السيئ للقمامة. وهذا السخط والغضب أَخرج السكان من منازلهم في عدة ضواحي وأحياء محيطة بالعاصمة في مظاهرات ومسيرات للتعبير عن معاناتهم البيئية والصحية وإيقاظ الجهات المعنية من سباتهم العميق الذي طال لإيجاد حلولٍ فورية ومستدامة لهذه الحالة البيئية الصحية التي يقاسون منها، ورفعوا أثناء المظاهرات شعارات تعكسهم وضعهم السيئ منها "قِفُوا تسميمنا" و "لا تقتلوا أطفالنا"، كما إن بعض المتظاهرين نقلوا رسالة فيديو عبر اليو تيوب مباشرة إلى الرئيس الروسي بوتين للشكوى عن حالهم وحال أسرهم.

 

وفي البحرين فإن هذه الحالة كادت أن تقع، فتتحول قضية القمامة من همٍ بيئي صحي إلى صداع سياسي وأمني مؤلم وخطير، عندما حدث في السنة الماضية خلل إداري في تجميع القمامة من بعض مناطق البحرين فتراكمت في الأحياء والطرقات وسببت ضيقاً شديداً وقلقاً مخيفاً للمواطنين، ومثل هذه الحالة من المؤكد أنها ستتكرر لعدم وجود إستراتيجية واضحة وعلمية طويلة الأمد، وغياب الخطة التنفيذية المستدامة للتعامل السليم مع المخلفات البلدية الصلبة التي تزيد يوماً بعد يوم.

 

ولذلك فإنني أُذكر كل مسؤول في أن يضع هذه الحقيقة نُصب عينيه ولا ينساها أبداً، وأُعبر عنها في المعادلة التالية وهي أن تجاهل المشكلة البيئية وتركها تتفاقم يؤدي حتماً إلى تدهور الأمن العام وزعزعة الاستقرار في البلد.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق