الأحد، 18 أكتوبر 2020

لماذا اضطرتْ بعض المجلات العلمية إلى التدخل في السياسة؟

لا سياسة في العلم، ولا لتسييس التقارير والأبحاث العلمية، ولا لتدخل رجال السياسة والنفوذ في استنتاجات الدراسات العلمية، فالعلم يجب أن يبقى بعيداً ومستقلاً عن المهاترات والأهواء السياسية التي تتقلب بين عشيةٍ وضحاها، ويجب أن يتجنب العلماء والباحثون التفضيل بين مواقف رجال الحكم والنفوذ، إلا استناداً إلى التحاليل المخبرية والدليل العلمي الموثوق.

 

فلو أخذنا بالاعتبار مثل هذه السياسات الأصيلة المتعلقة بعلاقة العلم بالسياسة وطبقناها في حياتنا اليومية فسنرفع من شأن العلم والعلماء، وسنزيد من مصداقية العلماء ونتائج أبحاثهم، فلا يتحول العلماء إلى رجال فتوى للساسة والزعماء، فيُطوعون علمهم ودراساتهم لأهواء رجال السياسة، ويجعلونها تتوافق مع مواقفهم السياسة.

 

ولكن هناك مع الأسف من قادة الدول من تدخل في شؤون العلم دون سلطان أو بَيَّنة، وجعل مواقفه السياسية في قضايا صحية وبيئية بناءً على توافقها مع حظوظه في الفوز في الانتخابات، بل وألزم بعض العلماء إلى تغيير آرائهم العلمية في مجالي الصحة والبيئة لتُسنِد سياساته ومواقفه.

 

وهذا بالفعل ما يحدث الآن في بعض دول العالم، ومن أكثر الأمثلة وضوحاً، والتي يمكن ضربها لبيان هذه الحقيقة هو الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة في عهد الرئيس ترمب. ففي المجال الصحي، وبالتحديد بالنسبة لوباء كورونا فهو لم يعترف بأبحاث علماء أمريكا الأجلاء المعروفين على المستوى الدولي بغزارة علمهم وعمق خبراتهم، ولم يأخذ بآراء المسؤولين في المراكز والمعاهد الصحية القومية الحكومية المختصة في مجال الأمراض المعدية، وأخذ بين الحين والآخر يقذف التصريحات السياسية الخاوية يميناً ويساراً، فتارة كان يقول بأن مرض فيروس كورنا مثل مرض الزكام، أو مرض البرد العادي الموسمي، وتارة كان يقول بأن الفيروس سيختفي كلياً، وتارة أخرى يقول بأن الفيروس خدعة صينية ومن إنتاج الحزب الديمقراطي، وتارة كان يفتي دون أي علم أو خبرة في الدواء الذي يعالج الفيروس، حيث قال في 19 مارس قال بأن الأدوية المستخدمة لعلاج الملاريا مفيدة لعلاج فيروس كورونا مثل هيدروكسي كلوروكوين (hydroxychloroquine and chloroquine)، علماً بأن هناك خلافاً كبيراً في المجتمع الطبي حول جدوى وفاعلية هذا الدواء. ثم عندما احتل الفيروس جسد المجتمع الأمريكي برمته ووصل عدد الذين قضوا نحبهم إلى أكثر من 220 ألف، فقد كان بالرغم من هذا العدد الكبير من الموتى، يرفض اتخاذ إجراءات محددة للتحكم في المرض والسيطرة عليه مثل إلزام الناس لبس الكمامات الواقية، والتباعد الاجتماعي، وازدياد أعداد الأمريكيين الذين يخضعون لتحليل الدم، والدعوة لإغلاق بعض المدن الشديدة التضرر.

 

وفي الوقت نفسه كان يُلقي التهم المضللة ضد العلماء الحكوميين، ويهاجم في الوقت نفسه رجال العلم والصحة والمختصين بمثل هذه الأمراض عندما كانوا يختلفون معه في الرأي، ولا يوافقونه على سياساته ومواقفه غير المنطلقة من الأدلة العلمية، كما حدث بالفعل عندما هاجم أنتوني فوشي(Anthony Fauci)مدير المعهد القومي للحساسية والأمراض المعدية في عدة مناسبات، كان آخرها في 13 أكتوبر.

 

ومن مواقفه العشوائية الصحية ننتقل إلى سياساته البيئية، وبخاصة بالنسبة للقضية الدولية الشائكة وهي التغير المناخي وارتفاع درجة حرارة الأرض، حيث قال في عدة مناسبات بأنها "خدعة صينية"، كما أكد دون أي دليل بأنه لا دور للإنسان في هذه التغيرات المناخية التي تشهدها الكرة الأرضية، إضافة إلى انسحابه من اتفاقية باريس حول التغير المناخي، مخالفاً بذلك الإجماع الدولي حول هذه الاتفاقية. وعلاوة على ذلك فقد بدأ برفع القيود عن الأنظمة والمعايير البيئية لكي تكون أقل حزماً بالنسبة لمستوى الانبعاثات التي تنطلق إلى الهواء الجوي من مصادرها المختلفة، سواء أكانت السيارات، أو محطات توليد الكهرباء.

 

كل هذه المواقف والسياسات من العلم والعلماء، والاستهانة بهما، والتقليل من شأنهمها ومصداقيتهما، اضطر بعض المجلات العلمية والطبية الأمريكية العريقة والمرموقة، ولأول مرة في تاريخها الطويل، إلى التدخل في السياسة، ليس حُباً ولا رغبة في ذلك، ولكن كما يقول المثل "مجبر أخاك لا بطل"، فهذا التدخل غير المسبوق كان من أجل حماية جوهر العلم، والحفاظ على مصداقية العلماء وإعادة ثقة الناس والحكومات بهم.

 

فعلى سبيل المثال، مجلة نيو إنجلند للطب(The New England Journal of Medicine) التي تُعتبر من أقدم وأعرق المجلات العلمية وأكثرها مصداقية في مجال الطب ولها وزنها الثقيل بين جميع علماء العالم، والتي بدأت في الإصدار في عام 1812، أي قبل 208 سنة، كانت في تاريخها الطويل تبتعد عن التدخل في الشأن السياسي بُعد المشرق عن المغرب، فأبحاثها علمية وطبية بحتة لا علاقة لها كلياً بالوضع السياسي في البلد، أو المواقف السياسية لرجال السياسة والحكم، كما إنها لا تتحيز لأي مرشح رئاسي أو نيابي على مستوى الولاية وعلى المستوى الاتحادي. فهذه المجلة اضطرت الآن إلى اتخاذ موقفٍ سياسي حازم والدعوة إلى عدم التصويت لترمب، حيث جاء في مقال هيئة التحرير في 14 أكتوبر تحت عنوان: "نموت في فراغٍ قيادي"، بأن البيت الأبيض فشل فشلاً ذريعاً في إدارة كل مراحل وباء كورونا، حيث إنها "حولت الأزمة إلى كارثة"، كما ورد في المقال الافتتاحي بأن "قيادتنا الحالية ضعَّفَت الثقة في العلم وفي الحكومة، وتسببت في تدمير سمعة العلم لسنوات قادمة"، فالقيادة الحالية بدلاً من أن تستمع لآراء الخبراء وتعتمد على نتائج البحث العلمي، فقد توجهت نحو من ليس لهم علم أو خبرة بالأمراض المعدية، وكورونا بصفةٍ خاصة، مما سهل نقل المعلومات الكاذبة والمضللة وارتفاع أعداد المصابين والموتى.

 

وفي الوقت نفسه سلكت مجلة علمية أخرى مرموقة وعريقة الدرب نفسه، وهي مجلة "العلمي الأمريكي"( Scientific American)التي يبلغ عمر صدورها أكثر من قرن، فقد جاء في العدد المنشور في أكتوبر ولأول مرة أيضاً في تاريخها الدعوة إلى التصويت لمرشح رئاسي بعينه وهو جو بايدن، حيث أكد مقال هيئة التحرير بأن: "مجلة العلمي الأمريكي لم تقم قط بالتصديق على مرشح رئاسي في تاريخها الذي بلغ 175 عاماً، ونحن هذا العام مجبرين على اتخاذ هذا الموقف وبصعوبة جداً"، كما جاء في المقال: "عندما نتحدث عن إدارة أكبر أزمة صحة عامة اليوم، فقيادتنا السياسية الحالية أظهروا لنا بأنهم غير أكْفاء".

 

ولذلك حماية لسُمعة العلم والعلماء، وحفاظاً على مصداقية العلماء وأبحاثهم العلمية، وتعميقاً لدور العلم في اتخاذ القرارات السليمة والمستدامة وتنمية المجتمعات وازدهارها، لا بد من اختيار من يدافع عن هذه الأسس والمبادئ المجتمعية ويعمل على ترسيخها في المجتمع.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق