الجمعة، 16 أكتوبر 2020

قراءة في تقرير وزارة الأمن الداخلي الأمريكية حول التهديدات الإرهابية

بعد مخاضٍ عسير وطويل، وبعد معارك محتدمة بين الحزبين الجمهوري والديمقراطي، تمت أخيراً ولادة التقرير الأول لوزارة الأمن الداخلي في الولايات المتحدة الأمريكية، والذي طال انتظاره وترقبه من قبل المهتمين بالشأن الأمريكي الداخلي، وبالتحديد المراقبين لتطورات القضايا المتعلقة بالتهديدات الأمنية التي تواجه الولايات المتحدة الأمريكية داخلياً.

 

فهذا التقرير الذي نُشر في الخامس من أكتوبر من العام الجاري تحت عنوان: "تقييم التهديدات الداخلية"، يُعد الأول من نوعه لوزارة الأمن الداخلي حول هو التقييم السنوي الأول للتهديدات الداخلية، حيث حدد التقرير كافة التهديدات الأمنية التي تواجهها أمريكا داخلياً من كافة المصادر، سواء أكانت من أفراد، أو جماعات ومنظمات، أو دول أجنبية، أو كوارث بيئية وطبيعية.

 

ولكن هذا التقرير تأخر نشره لأسباب سياسية متعلقة بوضع البيت الأبيض يده على صياغة ولهجة التقرير الأمني، وفرض سياسة تطويع محتوى التقرير ليتوافق مع سياسات ومواقف وأهواء الرئيس ترمب، وبالتحديد بالنسبة للتقليل من شأن وتأثير التهديدات الأمنية التي تمثلها جماعات البيض من المسيحيين اليمينيين المتطرفين الذين يؤمنون بتفوق العرق الأبيض، مما أضطر الوكيل المساعد في وزارة الأمن الداخلي براين ميرفي(Brian Murphy) من مكتب الاستخبارات والتحليل(Office of Intelligence and Analysis) في الثامن من سبتمبر من العام الجاري إلى تقديم شكوى رسمية إلى "لجنة الاستخبارات"(House Intelligence Committee) التابعة لمجلس النواب الأمريكي، والتنبيه إلى تفاقم ظاهرة تدخل البيت الأبيض في محتوى التقارير الأمنية وتسيسها.

 

ونظراً لخطورة هذه الشكوى على مستقبل ومصداقية القائم بأعمال وزير الأمن الداخلي شاد ولف(Chad F. Wolf)، إضافة إلى دعوته لحضور جلسة الاستماع في الكونجرس لمناقشة هذه الشكوى، فقد تسارع مجبراً لا بطل إلى إصدار التقرير ونشر الحقائق الواقعية حول التهديدات الأمنية الخطيرة التي تمثلها جماعات تفوق العرق الأبيض العنيفة.

 

ولذلك كَتبَ القائم بأعمال وزير الأمن الداخلي في مقدمة التقرير مُعترفاً بالدور الرئيس لليمين المتطرف العنيف في تهديد الأمن القومي قائلاً: "أنا قلق بالتحديد بالنسبة لجماعات تفوق العرق الأبيض العنيفة والمتطرفة والذين قاموا بهجمات قاتلة في السنوات القليلة الماضية"، كما ورد في التقرير أيضاً: "التهديدات العنيفة العنصرية والعرقية من المتطرفين وبالتحديد من جماعات تفوق العرق الأبيض ستبقى التهديد الأكثر استمرارية والأشد عنفاً للأمن الداخلي".

 

وفي تقديري، وبخاصة بعد كشف ولاية ميشيجن الأمريكية في الثامن من أكتوبر من العام الجاري عن تخطيط ميليشيا مسيحية يمينية من البيض إسمها " Wolverine Watchmen" للقيام بعمليات إرهابية منها اختطاف حاكمة الولاية، وقتل بعض المسؤولين، وزرع المتفجرات في بعض المواقع الحيوية، وإشعال فتيل الحرب الأهلية، والهجوم على مبنى الحكم في عاصمة الولاية، فبعد هذه العملية ستكون لهجة وصياغة تقارير وزارة الأمن الداخلية القادمة أكثر وضوحاً وتشدداً تجاه هذه الجماعات، وستصبح التهديد الإرهابي الأول لاستقرار وأمن الولايات المتحدة الأمريكية، وربما قد يوضع بعضها ضمن قائمة "الجماعات الإرهابية".

وعلاوة على تطرق التقرير للتهديدات الداخلية المتمثلة في عدة مجموعات من أهمها اليمين المتطرف، فقد ناقش التقرير مصادر أخرى قائمة تهدد أمن أمريكا، منها التهديد الإلكتروني أو الحرب الإلكترونية(cyberwarfare) التي يشنها أفراد، أو جماعات، أو دول، وبالتحديد روسيا والصين وإيران، من خلال سرقة وقرصنة المعلومات والوثائق العلمية، إضافة إلى نشر معلومات مضللة وكاذبة، والتدخل في الانتخابات الأمريكية، كذلك هناك التهديدات للاقتصاد الأمريكي، وبالتحديد من الصين من خلال      قرصنة وسرقة المعلومات التجارية والعلمية، وإنتاج وتوزيع البضائع المنافسة لأمريكا، وإحداث خلل في الميزان التجاري بين البلدين. وعلاوة على ما سبق، فهناك التهديدات من المنظمات الإجرامية التي تتاجر في المخدرات وغسيل الأموال، إضافة إلى التهديد من طوفان الهجرة غير الشرعية.

 

وأخيراً جاء التهديد الطبيعي لأمن أمريكا، والمتمثل في الكوارث الطبيعية كالأعاصير وحرائق الغابات. ولكن التقرير لم يتطرق كلياً إلى التهديد الشامل القادم من "التغير المناخي"، وتداعيته الكثيرة على الكرة الأرضية برمتها كارتفاع درجة حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، فقد تجاهل التقرير هذا التهديد المحتوم. وهناك الكثير من التصريحات والتقارير التي تؤكد واقعية التهديد الأمن الصادر من التغير المناخي. فقد أعلن جون كيري وزير الخارجية الأسبق للولايات المتحدة الأمريكية في الثاني من ديسمبر 2019 قبيل البدء في مؤتمر الأمم المتحدة للتغير المناخي في دورته رقم (25) في مدريد عن مبادرة جديدة تتمثل في تشكيل فريقٍ من الحزبين الديمقراطي والجمهوري ومن المستقلين من كافة التخصصات والأعمال لمواجهة هذه الحالة المناخية واعتبارها "حالة حرب"، كما قال كيري في مقابلة تلفزيونية لمحطة إِن بِي سِي الأمريكية بأن التغير المناخي يُعد "قضية أمنية دولية"، ولذلك يجب التعامل معها والإعداد لها كما تتعامل الدول وتستعد وتُحرك جميع قواتها عند الدخول في الحروب. كذلك نشر البنتاجون، أو وزارة الدفاع الأمريكي تقريراً مفصلاً وشاملاً في 31 يناير 2019 تحت عنوان :" تقييم المخاطر المتعلقة بالمناخ للقواعد العسكرية التابعة لوزارة الدفاع"، وأكد فيه بأن تداعيات ظاهرة التغير المناخي والمتمثلة في رفع مستوى سطح البحر وحدوث الفيضانات والأعاصير والرياح الصرصر العاتية ورفع درجة حرارة الأرض تؤدي إلى التهديد المباشر لأكثر من نصف القواعد العسكرية الأمريكية المنتشرة في الكثير من دول العالم، وبالتحديد ستُحدث هذه الانعكاسات الناجمة عن التغيرات المناخية تدميراً كلياً لـ 1684 قاعدة عسكرية من أكثر من 3500 موقع عسكري موجود بالقرب من السواحل البحرية حول العالم. كما أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية في 14 سبتمبر 2016 بأن البنتاجون يؤكد بأن التغير المناخي يشكل "تهديداً مضاعفاً" على الأمن القومي الأمريكي.

 

ولذلك بعد كل هذه الأدلة الدامغة والمتواترة على تهديدات التغير المناخي للأمن القومي الأمريكي، أستغرب من خُلو تقرير وزارة الأمن الداخلي من أي ذكر لهذا التهديد الشامل، ليس لأمريكا فحسب وإنما للكرة الأرضية برمتها!

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق