الخميس، 28 يناير 2021

شُح المصايد السمكية مشكلة أمنية


في الماضي الغابر، ومازال حتى يومنا هذا تتعمق الخلافات وتحتدم بين الدول على الثروة المائية المشتركة، وتتفاقم الأزمات على حصة وحق كل دولة من هذه الثروة العظيمة التي لا حياة بدونها، ولا تنمية، ولا استقرار اقتصادي أو أمني، كما هو الحال أخيراً بالنسبة لسد النهضة القائم على نهر النيل في أثيوبيا، والنزاع السياسي العصيب القائم بين أثيوبيا والسودان ومصر حول تقاسم هذا المورد الحيوي.

 

وفي المقابل هناك صراعات سياسية وأمنية قد تشتعل ثم تتفجر حول الأمن الغذائي المتمثل في الصيد السمكي البحري والخلافات حول مصايد الأسماك الشحيحة المشتركة بين الدول في بحار العالم.

 

فنشهد اليوم، على سبيل المثال صراعاً سياسياً حاداً، وجدلاً واسعاً بين بريطانيا من جهة والاتحاد الأوروبي من جهةٍ أخرى والمتعلقة بمفاوضات خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، وبالتحديد في مجال الوصول إلى حصة عادلة ومقبولة لكل دولة من هذه الثروة السمكية البحرية المتجددة التي لها أبعاد كثيرة هامة منها البعد المتعلق بالأمن الغذائي، والسياسي، والأمني، والاجتماعي لكل الدول التي تطل على بحر الشمال. فقد رفض الاتحاد الأوربي في 23 ديسمبر من العام الجاري العرض المقدم من بريطانيا بشأن كافة القضايا المتعلقة بالصيد البحري المشترك بين جميع الدول، وسبل التقاسم العادل لحقوق وحصة الصيد لهذا المورد الطبيعي الحيوي.

 

وهذه الخلافات السياسية الأمنية على المصايد السمكية، والمخزون السمكي المحدود كمياً والمتدهور نوعياً، موجودة ومزمنة منذ زمنٍ بعيد بين بعض الدول في مياه الخليج العربي، وتظهر فوق السطح جلية واضحة، وتنكشف إلى عامة الناس بين الحين والآخر، فتتحول إلى قضية سياسية وأمنية حادة، كما هو الحال هذه الأيام بين البحرين وقطر.

وفي الواقع فإن النزاعات والخلافات بين الدول على الموارد والثروات الطبيعية، كالثروة المائية والثروة السمكية لا تندلع ولا تنشب إلا في حالتين. أما في الحالة الأولى فتبدأ الصراعات عندما يكون هذا المورد الطبيعي شحيحاً وقليلاً أصلاً، فلا يكفي لاحتياجات شعوب وحكومات الدول المجاورة المعنية بهذه الثروة الفطرية الطبيعية، ولذلك كل دولة تحاول أن تسحب النصيب الأكبر من هذه الثروة تجاهها، إما بالمفاوضات الثنائية والتحكيم الدولي والطرق السلمية، وإما بالقوة في بعض الأحيان، فيكون عندئذ للمنتصر نصيب الأسد من هذه الثروة المتنازع عليها. وأما في الحالة الثانية فتنشب المعارك السياسية بين الدول عندما تقوم إحدى الدول المعنية بهذه الثروة بممارسات وسلوكيات تؤذي هذه الثروة من الناحية النوعية ومن ناحية جودتها وصلاحية استعمالها، فتقوم هذه الدولة بتلويث هذا المورد الطبيعي وصرف المخلفات السائلة والصلبة والغازية فيها، مما يصعب استعمالها مباشرة من الدول الأخرى بدون القيام بعمليات مكلفة جداً تتمثل في التصفية والتنقية وإزالة الملوثات والمخلفات منها، فتسبب عندئذٍ أزمات حادة بين كل هذه الدول المعنية، كما هو الحال بالنسبة للهواء الجوي المشترك الذي يعبر الحدود الجغرافية بين الدول، أو تلوث المسطحات المائية المشتركة وتسمم الكائنات الفطرية الحية التجارية والغذائية التي تعيش فيها، كالأنهار والبحيرات والبحار.

 

وأما بالنسبة لشح الموارد كمياً ونوعياً، كالثروة السمكية، على سبيل المثال، ففي بعض الحالات تكون أيدي الإنسان وتصرفاته هي المسؤول الأول والمباشر عن انخفاض أحجامها، وقلة كمياتها، بسب البرامج التنموية أحادية الجانب والمعوقة التي يقوم بها، والتي لا تأخذ في الاعتبار الجوانب المتعلقة بحماية البيئة والحفاظ على ثرواتها الحية وغير الحية لهذا الجيل والأجيال القادمة، فتنصب برامجه نحو تحقيق الجانب الاقتصادي البحت، وإهمال الجوانب الأخرى الحيوية الضرورية لتحقيق تنمية مستدامة عادلة ومتوازنة.

 

ففي البحرين، هناك الكثير من الممارسات غير السليمة التي قُمنا بها في العقود الماضية منذ بدء الحركة التنموية الحديثة في البلاد، وأصبحنا الآن نعاني من سلبياتها، ونشكو من أخطائها. ومن أكثر الأمثلة وضوحاً هو التدهور النوعي والكمي للثروة السمكية، والقضاء على البيئات الطبيعية والموائل الفطرية التي تعيش عليها هذه الثروة السمكية، فتنمو وتتكاثر تحت ظلالها.

 

ومن أشد العمليات وطأة على البيئة البحرية برمتها، ومن أكثرها تدميراً للثروة السمكية ومصائد الأسماك التقليدية المعروفة هم عمليات الحفر البحري لاستخراج الرمل، وعملية دفن السواحل البحرية الأكثر إنتاجاً وعطاءً للثروة السمكية ولاستدامة حياة الأحياء البحرية بشكلٍ عام.

أما عمليات الحفر البحري فكانت تتم لعدة أغراض منها استخراج الرمل لأعمال التشييد والبناء، أو تعميق وحفر القنوات البحرية لتوسعة وتعميق القنوان المائية لمرور السفن العملاقة، وبخاصة بدءاً من الخمسينيات من القرن المنصرم، فقد أُجريت عمليات الحفر بشكلٍ عشوائي غير مستدام وفي معظم سواحل البحرين الشمالية والشمالية الشرقية ثم الشمالية الغربية، حتى تم فقد السيطرة عليها كلياً وعلى أسلوب عملية الحفر والوسائل الجائرة المستخدمة لذلك، فقد أصبحت تداعياتها الخطيرة مشهودة حتى للمواطن البسيط العادي، وكانت هذه المردودات والأضرار السلبية منحصرة في جانبين هامين خطيرين. فالجانب الأول متعلق بالبيئة البحرية وبجودة مياهها والكائنات البحرية التي تعيش في منطقة الحفر، أو بالقرب منها، فعمليات الحفر كانت لها مردودات سلبية طويلة الأمد هددت الثروة البحرية بشكلٍ عام، منها تدهور جودة المياه عن طريق زيادة الرواسب الترابية وارتفاع مستوى عكارة الماء وانخفاض درجة الرؤية، وانعكاس كل هذه السلبيات على الكائنات البحرية التي كانت تعيش في مناطق الحفر أو بالقرب منها، إضافة إلى ارتفاع ملوحة المياه الجوفية الساحلية بسبب عمليات الحفر، وبالتحديد في المناطق البحرية التي كانت تقع تحتها طبقات المياه الجوفية.

 

وأما عمليات الدفان التي بدأت في الخمسينيات من القرن المنصرم، ومازالت مستمرة، فهي أعتبرها عمليات تدمير شامل للبيئة البحرية التي يتم دفنها، فهذه البيئة تنتهي إلى الأبد، وينتهي معها كل كائن حي نباتي أو حيواني، صغير أو كبير عاش في تلك المناطق.

 

ولذلك فإن عمليات الحفر والدفان، إضافة إلى الصيد العشوائي المفرط والجائر لسنوات طويلة، وتلوث البحار من مخلفات المصانع ومحطات معالجة مياه المجاري، كلها تراكمت معاً وتجمعت أضرارها الجسيمة، فأدت إلى تدهور مصايد الأسماك، ونجم عنها انخفاضاً شديداً في أعداد وأنواع الأسماك التي هي الغذاء الرئيس للمواطن البحريني وأساس تحقيق الأمن الغذائي المستدام، فاختفتْ أنواع عدة من الأسماك التجارية المشهورة في البحرين وانخفضت أعداد أنواعٍ أخرى.

 

فهذه الحالة المتمثلة في تدمير وتدهور مصايد الأسماك وشح الثروة السمكية في مياهنا خلقت مشكلة اقتصادية، واجتماعية، وتحولت مع الوقت إلى مشكلة سياسية وأمنية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق