الاثنين، 1 فبراير 2021

أرى شمعة تشتعل في آخر نفق التغير المناخي

قضية التغير المناخي معقدة ومتشابكة جداً ولذلك فإنها تراوح في مكانها منذ أن وُضعتْ في جدول أعمال دول العالم تحت مظلمة الأمم المتحدة في عام 1992 في قمة الأرض في ريو دي جانيرو، فأبعادها الكثيرة المترابطة تجعلها عصيَّة على الحل الجذري الجماعي والمستدام.

 

فقد بدأت في الظهور كمشكلة بيئية خالصة تتمثل في انبعاث الملوثات وعلى رأسها غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان من احتراق الوقود الأحفوري، كالجازولين والديزل والغاز الطبيعي، من القطاع الصناعي وقطاع المواصلات والزراعة، ثم مع انكشاف تداعيات هذه القضية المتمثلة في ارتفاع درجة حرارة الأرض، وارتفاع مستوى سطح البحر، تبين بأن هناك أبعاداً جديدة لم تكن متوقعة ولم تكن في الحسبان، مثل البعد الصحي، والاقتصادي، والاجتماعي، إضافة إلى الجانب المتعلق بأمن الطاقة على مستوى كل دولة على حدة، وعلى مستوى دول العالم أجمع. ومع تفاقم هذه الأزمة الدولية مع الزمن، وزيادة التعقيد في خطورة مردوداتها ومظاهرها المستجدة يوماً بعد يوم المهددة لسلامة كوكبنا، تعقدت الحلول نتيجة لذلك، وتأزمت عملية الوصول إلى حلٍ جماعي مشترك يُرضي مصالح كل دول العالم، ويوافق الجميع على تنفيذها، فتتعهد كل دولة وتلتزم بخفض انبعاث الملوثات من مصادرها التي لا تعد ولا تحصى.

 

ولذلك بعد أن وافقت دول العالم أجمع، وفي مقدمتهم الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، على الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي قبل قرابة ثلاثين عاماً في القمة التاريخية حول البيئة والتنمية، دَخلتْ دول العالم مباشرة في التفاوض على اتفاقية جماعية مشتركة وملزمة لدول العالم جميعاً، باستثناء الدول النامية، وحدث اختراق غير مسبوق بعد قرابة خمس سنوات، وتوصل المجتمع الدولي إلى هذه المعاهدة المنشودة في ديسمبر 1997، وأَطلق عليها بروتوكول كيوتو. ولكن تجاذبات السياسة، وتداخل وغلبة المصالح الشخصية والحزبية فوق المصالح العامة ومصلحة الأرض وشعوبها، توقف تنفيذ هذا البروتوكول بعد أن رفضت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد جورج بوش الابن على المصادقة عليه. ثم أعاد المجتمع الدولي الكرَّة مرة ثانية فبدأ سلسلة عقيمة ماراثونية من المفاوضات استغرقت زهاء عشرين عاماً، وتمخض عنها تفاهمات باريس لعام 2015 التي وقع عليها أوباما في أغسطس 2016، ولكن التاريخ أعاد القصة نفسها فانسحبت الولايات المتحدة الأمريكية في عهد ترمب من اتفاقية باريس في الأول من يونيو 2017.

 

والآن بعد هذا التاريخ المظلم المتلاطم الأمواج لقضية التغير المناخي على المستوى الدولي، هل ستكون هناك بارقة أمل للنجاح في علاج هذه القضية من خلال آلية المعاهدات الدولية المشتركة والملزمة؟ وهل هناك احتمال لرؤية شمعة تشتعل في نهاية نفق التغير المناخي الطويل؟

 

الوضع السياسي الحالي في العالم، وبخاصة التغيرات الرئاسية التي حدثت في الولايات المتحدة الأمريكية، يجعلني أتفاءل لمصيرٍ مشرق ومزدهر للتغير المناخي على المستوى الدولي، وبالتحديد خلال الأربع سنوات القادمة. وفي الحقيقة توافرت عدة عوامل جعلتني أثق هذه المرة بمصداقية الولايات المتحدة الأمريكية ونواياها الحسنة في علاج هذه القضية ومقاومتها على المستويين القومي الأمريكي، وعلى المستوى الدولي.

 

أما العامل الأول فهو متعلق بالرئيس الأمريكي جو بايدن نفسه، حيث كان نائباً للرئيس في عهد أوباما الذي كان له اليد الطولى في هندسة اتفاقية باريس المناخية، ولذلك فسياساته المناخية لن تحيد كثيراً ولن تنحرف عن سياسات أوباما في قضية التغير المناخي. كما أنه منذ انتخابه رئيساً وضع قضية العصر في مقدمة أولوياته وفي الصفحة الأولى من جدول أعماله، حيث كلَّف جون كيري وزير الخارجية الأسبق في 24 نوفمبر من العام المنصرم بمتابعة ملف التغير المناخي، كما أنه في أول يوم له في البيت الأبيض وقَّع أمراً تنفيذياً ركَبَ فيه القطار الدولي للتغير المناخي مرة ثانية، وفي الوقت نفسه تبنى "المدخل الشامل" لمواجهة التغير المناخي من خلال توجيه كافة الأجهزة الحكومية لإعداد أنظمة ومواصفات تعمل على خفض انبعاث الملوثات المسؤولة عن رفع درجة حرارة الأرض، وأمر بدمج البعد المتعلق بالتغير المناخي في كافة برامج الوزارات والوكالات الحكومية.

 

والعامل الثاني فهو متعلق في ما هو أهم من مواقف الرئيس وسياساته وبرامج حكومته، وهو الكونجرس الأمريكي بمجلسيه النواب والشيوخ، فالكونجرس في نهاية المطاف هو الذي بيده صلاحيات التصديق على الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، فيكتُب لها الاستدامة في التطبيق والدعم المالي، ولذلك فآراء الرئيس نفسه فقط تجاه التغير المناخي لا تكفي كلياً لإحرازٍ تقدمٍ ملموس ومشهود ومستدام على الأرض بالنسبة لمكافحة تداعيات التغير المناخي وخفض انبعاث الملوثات المتهمة بوقوعه. ولحسن حظ قضية التغير المناخي هذه المرة، فإن الحزب الديمقراطي يسيطر على مجلسي الكونجرس، مما يعني بأن حظوظ تصديق أية معاهدة دولية متعلقة بالتغير المناخي لترى النور ستكون مرتفعة جداً، وفي الوقت نفسه فإن الرئيس الديمقراطي بايدن يستطيع بدون أية عوائق جدية من تمرير أجندته المتعلقة بالتغير المناخي على المستوى القومي، والحصول على مباركة ودعم الكونجرس في تنفيذه وتخصيص المبالغ المالية اللازمة لذلك، ثم سن تشريعات على المستوى القومي تدخل في مصلحة مكافحة مردودات التغير المناخي.

 

والآن كل ما على الرئيس بايدن القيام به هو التفتيش من جديد عن خطة وبرامج وأنظمة أوباما المتعلقة بالتغير المناخي، وتحديثها بعض الشيء وإعادة صياغتها وتعديلها لتتناسب مع آخر المستجدات، ثم طرحها ضمن برامج الوزارات والوكالات الحكومية، ورفع البعض منها لنيل موافقة الكونجرس وتخصيص الميزانية المطلوبة لتنفيذه، فالطريق أمامه سالك وممهد ويجب عليه عدم تفويت هذه الفرصة الذهبية خلال الأربع سنوات من جلوسه على كرسي البيت الأبيض، فلا أحد يدري من سيأتي بعده.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق