الأربعاء، 10 فبراير 2021

ما هو مصدر الغذاء الذي يحقق لنا الأمن الغذائي في البحرين؟

  تناقش جهات حكومية عدة تنفيذية وتشريعية هذه الأيام قضية الأمن الغذائي والمخزون الغذائي الاستراتيجي للبلاد، وهذه قضية حيوية مهمة جداً لا بد من أن نقف عندها كثيراً، ونحدد كافة الأبعاد المتعلقة بها، والتي تؤثر عليها سلباً أو إيجاباً.

 

وفي تقديري فإن هناك عدة مواصفات ومعايير يجب أن تتوفر في المادة الغذائية التي من المفروض أن توفر الأمن الغذائي لأي بلد، أو تُقدم مخزوناً استراتيجياً يمكن الاعتماد عليه بصفةٍ مستقلة ومستدامة، وله القدرة على مقاومة ومواجهة التغيرات الأمنية والسياسية، والأزمات الحادة التي تطرأ بين الدول، أو مواجهة الحالات الطارئة التي قد تقع على العالم، كالحروب، والكوارث الطبيعية، وانتشار الأوبئة التي قد تُعطل، أو تجمد تنقل المواد والبضائع بين دول العالم، كما هو الحال الآن بالنسبة لوباء فيروس كورونا العقيم.

 

فالمواصفات التي أضعُها شخصياً للمادة الغذائية، أو مصدر هذه المادة الغذائية التي تحمي الأمة من خطر المجاعة، أو النقص في الغذاء في حالات الطوارئ والحالات العادية على المدى القريب والبعيد، فيمكن الاتكال عليها، والاعتماد على وفرتها في جميع الظروف، فهي كما يلي:

أولاً: أن تكون متوافرة محلياً، أي أنها مادة فطرية وطبيعية يمكن زراعتها على المستوى القطري، أو من السهولة الحصول عليها مباشرة وبشكل مستمرٍ ودائم في البلد نفسه دون الحاجة إلى الاستيراد والنقل من بلدٍ إلى آخر، أو الاعتماد على دول أخرى لتزودنا بها بشكل مستمر مهما تغيرت الأهواء، وتقلبت الظروف والعلاقات معها.

ثانياً: أن تكون هذه المادة متجددة وغير ناضبة ومستدامة، أي أن تكون دائماً في متناول اليد في أي وقت، ولا تنتهي ولا تنفد إذا أحسن الإنسان إدارتها والتعامل معها.

ثالثاً: أن تكون هذه المادة خالية من الملوثات والمواد الضارة الأخرى المسببة للأمراض والعلل، والتي تدهور الصحة العامة للناس، ففي بعض الأحيان يمكن أن تكون المادة الغذائية متوافرة، أي أن كمياتها كبيرة، ولكنها في الوقت نفسه تعاني من تدهور وفساد في نوعيتها وجودتها، بحيث إن الإنسان لا يستطيع أن يستهلكها مباشرة إلا بعد فصل الملوثات والأضرار الصحية منها، وهي تمثل كلفة عالية جداً ترفع من سعر بيع هذه المادة الغذائية وتكون صعبة المنال للإنسان العادي وذوي الدخل المحدود، كما ترهق كاهل ميزانية الدولة.

رابعاً: أن تكون هذه المادة الغذائية ذي قيم غذائية عالية تُقوي الجسم البشري ويقمن صُلبه.

خامساً: أن يكون مصدر هذه المادة الغذائية آمناً ومتنوعاً من حيث أعداد وأنواع المادة الغذائية التي تقدمها للإنسان.

سادساً: أن تكون هناك خبرات بشرية سابقة في الاعتماد على هذا المصدر للمواد الغذائية الاستراتيجية، بحيث أثبتت فاعليتها وجدواها ونجاحها وإمكانية الاتكال عليها لتحقيق الأمن الغذائي.

سابعاً: أن تكون هذه المادة الغذائية غير مكلفة للدولة، فلا ترهق ميزانياتها، ولا تمثل عبئاً مالياً عليها، ويستطيع الشعب في الوقت نفسه تحمل كلفة شرائها بشكلٍ يومي وتأمين احتياجاته من الغذاء.   

 

وإذا بحثنا عن مادة، أو مصدر أولي للغذاء ينطبق عليه كل هذه المواصفات والاشتراطات التي ذكرتها فلن نجد في البحرين سوى مصدر واحد لا ثاني له، ولن نحصل إلا على مصدرٍ واحد يستحق كسب ثقة تحقيق الأمن الغذائي الفطري، وهو "البحر"، وما يحويه من خيرات وثروات وفيرة غذائية وغير غذائية.

 

فموارد البحر الغذائية ذاتية فطرية، ومستدامة، ومتجددة ولا تنفد، ومتنوعة، وآمنة نوعياً، ورخيصة نسبياً، ولا تحتاج إلى أماكن واسعة ومكلفة إدارياً ومالياً لحفظها وتخزينها، واعتمدت عليها الدول في القديم والحديث وأثبتت نجاحها وفاعليتها، ولذلك لا بد علينا من النظر بجدية إلى البيئة البحرية برمتها وما بها من ثروات حية وغير حية، واعتبارها قضية أمن قومي من الدرجة الأولى، وبالتالي جعلها في المرتبة الأولى في سلم الأولويات في جدول أعمال وبرامج الحكومة، من حيث الرعاية والاهتمام، ومن حيث تخصيص الموارد المالية والبشرية والإدارية الضرورية لحمايتها وإدارتها بطريقة تُعينها على الاستدامة في العطاء والإنتاج لنا وللأجيال القادمة من بعدنا، فنجعلها المخزون الاستراتيجي الغذائي المستدام لمملكة البحرين.

 

ولكن هل البيئة البحرية في وضعها الحالي المؤلم، وفي ظروفها الآنية الصعبة التي يعاني منها، لها المقومات التي تجعلها أهلاً لنيل أن تكون ذا مصداقية عالية، وثقة كبيرة لتحقيق الأمن والاستقرار الغذائي المستدام لشعب البحرين؟

 

لا شك بأن البحر الآن لم يعد البحر نفسه الذي كُنا نعرفه قبل نحو مائة عام، فقد طرأت عليه تغيرات جذرية من الناحيتين النوعية والكمية بسبب تعديات الإنسان المتكررة والجسيمة طوال العقود الماضية على حرماته وأعضاء جسمه. فعمليات الدفان أكلت من جسم البحر يوماً بعد يوم، وقطعت الشرايين التي تغذي البيئات البحرية وكائناتها بالروح والحياة والاستمرارية في العطاء والإنتاج، فدفنت وبدون رجعة مساحات كبيرة من البحر، فأهلكت جميع الكائنات المثمرة والتجارية التي عاش عليها الأجداد سنوات طويلة كمصدر غير نابض لأمنهم الغذائي وأمدهم بالمخزون المستدام للغذاء، وفي الوقت نفسه جاءت الآليات العظيمة التي حفرت البحر لاستخراج الرمل فدمرت تلك المناطق القاعية تدميراً شاملاً، وفي المقابل ومما زاد الطين بلة ارتكبت أيدي البشر جرائم على الحياة الفطرية باستخدام أدوات ووسائل الصيد الجائر، وصيد التدمير الشامل من خلال شباك الجر التي بنت شوارع ترابية في عمق البحر، وسحبت معها كل كائن حي صغير كان أم كبير، فغيرت كلياً من هوية ونوعية البيئة القاعية. وقد نُشرت الكثير من الدراسات لسبر غور هذه الكارثة على الصحة العامة للبيئة البحرية، منها الدراسة حول تأثيرات شباك الجر القاعية على البيئة البحرية القاعية والمنشورة في مجلة (Geophsical Research Letters)في 15 ديسمبر 2020، والتي أكدت بأن مثل هذه الممارسات قد سببت تدميراً طويل الأمد للبيئة القاعية، فغيرت من خصائص التربة ونوعيتها، وخفضت من قُدرة البحر على تخزين الكربون ودفنه تحت التربة. وعلاوة على ذلك كله، فالبيئة البحرية، وبخاصة المناطق الساحلية تحولت لفترة طويلة من الزمن إلى مقبرة جماعية تُكب فيها المخلفات السائلة من محطات معالجة مياه المجاري والمصانع.

 

فهذا المخزون الاستراتيجي الآمن والثري والمستدام للغذاء، وهذه النعمة الفطرية الكبيرة التي وهبها الله لنا يجب أن نحييها مرة ثانية، ونُرجع إليها قوتها وإنتاجيتها وعطاءها ودورها في تحقيق الأمن الغذائي، فلا نحتاج فقط إلى عمليات جراحة تجميلية بسيطة، وإنما نحتاج إلى تدخل سريع وإجراء عمليات جراحة كبرى في كافة أعضاء جسمها، فنعيد تأهيل كل ما دمرناه، ونوقف أيدينا من التعدي عليها مرة ثانية.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق