الخميس، 11 فبراير 2021

رجل يطلب حق اللجوء بسبب التلوث في بلاده!


يضطر الإنسان اضطراراً ومجبراً في بعض الحالات إلى ترك وطنه ومسقط رأسه عندما تكون حياته مهددة بالخطر، وعندما يتعرض لحتمية الموت في بلاده، فيكون ملاحقاً من أجل سجنه، أو تعذيبه، أو إعدامه، وبالتالي يهرب ويلجأ إلى موطنٍ غير موطنه الأصلي، ويطالب بحق اللجوء السياسي، ليجد هناك الأمن والاستقرار وتفادي خطر الموت.

 

وهناك أسباب وحالات معروفة وتقليدية سمعنا وقرأنا عنها منذ سنوات طويلة، مثل الخلاف السياسي والفكري بين الدولة والشخص، أو نشر معلومات سرية ووثائق تسيئ إلى سمعة الدولة وأمنها، أو الانشقاق العسكري عن النظام الحاكم، أو الانتماء إلى دين، أو مذهب مخالف للدولة، وهناك أمثلة لا تُعد ولا تحصى لمثل هذه الحالات في دول الشرق والغرب.

 

ولكن مع المستجدات العصرية، والمتغيرات التي طرأت على أنماط وسياسات التنمية في الدول، وبخاصة في مجالي التصنيع والمواصلات والزراعة، انكشفت أسباب وعوامل أخرى جديدة تهدد الأمن الصحي على المستويين الفردي والجماعي، وقد تُعرض حياة الإنسان للسقوط في شر الأمراض الحادة والمزمنة، وبالتالي الوقوع في مصيبة الموت البطيء أو السريع.

 

ومن هذه العوامل التي تهدد حياة الإنسان وتوقعه في شباك الأمراض والعلل، ثم الموت المبكر هو تلوث الهواء، سواء في البيئات الداخلية أو البيئات الخارجية، وهناك إجماع على مستوى العلماء وعلى مستوى المنظمات الدولية المعنية كبرنامج الأمم المتحدة للبيئة ومنظمة الصحة العالمية بأن تلوث الهواء قاتل ومدمر شامل لصحة الإنسان العضوية، والنفسية، والعقلية، وجميع الدراسات والتقارير تؤكد هذه الحقيقة.

 

فمنظمة الصحة العالمية هي المظلة الصحية لدول العالم، وهي المعنية بحماية صحة البشر من الأمراض والأوبئة، وهي المختصة بتحديد أسباب ومصادر المرض للبشرية، ولذلك فإن تصريحاتها وتقاريرها كلها تفيد بأن تلوث الهواء خطر حقيقي على الإنسان ويؤدي إلى مرض البشر وموتهم في سن مبكرة. فعلى سبيل المثال، صرح المدير العام لمنظمة الصحة العالمية في 27 أكتوبر 2018 بأن تلوث الهواء أصبح الآن "حالة صحية طارئة وصامتة"، حيث قال: "لقد تجاوز العالم منعطف التبغ، ونواجه الشيء نفسه في الهواء السام الذي نستنشقه، والذي يُعد التبغ الجديد، فلا أحد يَسْلم من تلوث الهواء، لا غني ولا فقير، إنها حالة صحية طارئة وصامتة"، إضافة إلى أن منظمة الصحة العالمية نفسها ممثلة في الوكالة الدولية لأبحاث السرطان قامت في عام 2015 بتصنيف "الهواء الجوي" بأنه من أسباب الإصابة بالسرطان للإنسان.

 

كما أكد المدير العام في الكلمة الافتتاحية لمؤتمر منظمة الصحة العالمية الأول حول "تلوث الهواء والصحة" والذي عقد في جنيف في الفترة من 30 أكتوبر إلى الأول من نوفمبر 2018، قائلاً بأن: "تلوث الهواء يمثل أحد أكبر الأخطار التي تهدد الصحة العامة"، حيث تقدر منظمة الصحة العالمية بأن تلوث الهواء يتحمل مسؤولة قتل زهاء سبعة ملايين من البشر سنوياً، كما أن التقارير الرسمية الصادرة من بريطانيا وحدها تفيد بأن قرابة أربعين ألف بريطاني يلقون نحبهم وينقلون في سن مبكرة إلى مثواهم الأخير سنوياً، فتلوث الهواء يسبب لهم أمراض القلب، وسرطان الرئة، وأمراض الجهاز التنفسي المختلفة، ولذلك أعلنت لجنة برلمانية في مجلس العموم البريطاني في عام 2016 بأن تلوث الهواء يُعد "حالة طوارئ عامة".

 

فكل هذه الأدلة الدامغة والمتواترة على تورط تلوث الهواء في قتل البشر، أقنعتْ القاضي في محكمة الاستئناف في بوردكس(Bordeaux) في فرنسا في العاشر من يناير من العام الجاري بأن يقضي ضد الحكم الصادر في حق رجلٍ في الأربعين من عمره من بنجلادش، ويوقف جميع الإجراءات الخاصة بترحيله من فرنسا، حيث حكمت إحدى المحاكم من قبل إلى إبعاده وطرده من فرنسا لعدم توافر شروط حق اللجوء السياسي بالنسبة له.

 

فقد كانت مبررات محامي هذا الرجل من بنجلادش للسماح له البقاء في فرنسا وإعطائه حق اللجوء "البيئي" هي أن حياة هذا الرجل في خطر إذا ذهب إلى بلاده، وأنه مهدد بالموت بسبب شدة تلوث الهواء في بنجلادش، فهذا الرجل مصاب بالربو، مما يعني بأن تشبع الهواء بالملوثات سيسبب له التهابات في الجهاز التنفسي وستزيد عنده نوبات الربو التي حتماً ستُعرضه للموت السريع والمفاجئ. وجدير بالذكر فإنه حسب دراسات جامعتي يال وكولومبيا في الولايات المتحدة الأمريكية حول مؤشر الأداء البيئي للدول(Environmental Performance Index)، فإن بنجلادش وقعت في أسفل القائمة وفي المرتبة رقم 179 من بين دول العالم من حيث جودة الهواء الجوي في عام 2020.

 

فحكم القاضي المتمثل في اعتماد تلوث الهواء كمعيار وشرط جديد لقبول طلبات اللجوء استند على أمرين، الأول هو الإجماع الدولي على أن تلوث الهواء يهدد حياة الإنسان بالخطر، وينقله مبكراً إلى مثواه الأخير، والثاني هو التدهور الشديد لجودة الهواء في بنجلادش بشكلٍ خاص، مما يجعل حياة هذا الرجل المصاب بالربو حتماً في خطر ومهددة بالموت، فيستحق بذلك أن يبقى في فرنسا.

 

وهذه الأحكام القضائية الفريدة من نوعها والتي تؤكد بأن "تلوث الهواء قاتل للبشر"، بدأت في الظهور في السنوات الأخيرة، حيث اتخذت محكمة في العاصمة البريطانية لندن قراراً تاريخياً في 16 ديسمبر 2020 يتلخص في أن موت طفلة في لندن كان بسبب تعرضها للملوثات السامة في الهواء الجوي، ولذلك صدرت شهادة الوفاة ولأول مرة ومكتوب فيها بأن سبب الوفاة هو تلوث الهواء، كما صدر عن القاضي أيضاً بأن: "المصدر الرئيس لتعرضها للملوثات التي أدت إلى موتها هو الانبعاثات من عوادم السيارات".

 

فهذه الحقيقة المتمثلة في تهديدات التلوث للإنسان، جعلت المفوضية السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان

تُدخل "صحة البيئة" كجزء أصيل من حقوق الإنسان التي يجب أن توفرها الدول لشعوبها، كالحق في التعبير عن الرأي والتعليم والصحة، وقد قامت العديد من الدول في دمج هذه القضية في دستور الدولة وهي "حق المواطن في العيش في بيئة سليمة ونظيفة ومستدامة".

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق