الاثنين، 19 أبريل 2021

لا تضعوا ثقتكم كلياً في شركات الأدوية!

أطلقَت الطبيبة الفرنسية المختصة في أمراض الجهاز التنفسي، وبالتحديد الرئة، إريني فراشون(Irène Frachon) من مستشفى(Brittany) في عام 2007 صفارة الإنذار الصحية، معلنة اكتشاف كارثة صحية نزلت على الآلاف من الفرنسيين عند تعاطيهم لدواء اسمه بنفلوركس(Benfluorex)، ويُباع تحت مسمى مديتر(Mediator)، فولَّعت بذلك الشرارة الأولى لأكبر فضيحة مجتمعية وصحية وقضائية مُدوية لم تنته تداعياتها وآلامها إلا في 29 مارس من العام الجاري، بعد أن أصدرت المحكمة الباريسية قرارها وحكمها النهائي، أي بعد معاناة مارا ثانوية استمرت قرابة 14 عاماً.

فالمشهد الأول لهذه الطامة الكبرى التي نزلت على فرنسا ينطلق من محكمة في العاصمة الفرنسية باريس، وبالتحديد في سبتمبر 2019 عندما فتحت هذه المحكمة أبوابها لقبول القضية، والاستماع إلى أكثر من 6500 مدعي من الذين اشتكوا من هذا الدواء وتضرروا صحياً من تداعيته وآثاره الجانبية، حيث شارك فيها قرابة 400 محامي يمثلون كافة الأطراف المتورطة في هذه النائبة الصحية، وبالتحديد كانت القضية بين ثاني أكبر شركة منتجة للأدوية في فرنسا وهي شركة مختبرات سيرفير(Les Laboratories Servier ) من جهة، والمتهمة بقتل ما يقارب من 2000 فرنسي ومرض عشرات الآلاف، والطرف الحكومي المختص بالسماح بالأدوية وهي الوكالة القومية للأدية(national medicines agency (ANSM)) من جهة ثانية، إضافة إلى الشعب الفرنسي، والتحديد قرابة خمسة ملايين فرنسي من الذين تعاطوا الدواء وتجرعوا كأس الموت البطيء أو المرض العضال في الفترة من عام 1976 إلى نوفمبر 2009 عندما تم سحب الدواء من الأسواق.

وأما المشاهد الأخرى فكلها تقع في داخل أروقة المحاكم، ومن خلال جلساتها التي استمرت حتى يوليو 2020، ثم المداولات والنطق بالحكم في 29 مارس 2021.

وأثناء الجلسات الساخنة والمؤلمة لأقرباء الموتى من الدواء، وللذين عانوا من انعكاساتها الجانبية على صحتهم، انكشفت الكثير من الحقائق، وظهرت الفضائح التي يجب أن نقف عندها لنرى أمام أعيننا وتحت أسماعنا الجرائم التي ارتكبتها هذه الشركة المصنعة للدواء، وكذبها وتحايلها على الناس، وجشعها لجمع المال على حساب الصحة العامة ورفاهية وسلامة الناس.

فقد كشفت جلسات المحكمة أن هذا الدواء بقي في الأسواق الفرنسية قرابة 33 عاماً، ومنذ أن دخل الأسواق كان يستخدم كعلاج لمرضى السكري من النوع الثاني، وبالتحديد مع البدناء الذين يعانون من الوزن الزائد، كما تم وصفه من قبل الأطباء، ومن غير دليل صحي ومن غير تجارب سريرية، لعلاج حالات التخفيف من الوزن وإضعاف شهية الإنسان نحو الأكل حتى لا يزيد وزنه.

وخلال تلك السنوات انكشفت العديد من الحقائق الطبية السريرية التي كانت من المفروض أن تدعو الشركة إلى سحب الدواء مبكراً قبل عام 2009، ولكن بالرغم من وجود الأدلة العلمية على الآثار الجانبية والمضاعفات التي يسببه للقلب إلا ان الشركة استمرت في بيع الدواء، والتستر على هذه المعلومات الموثقة حول أضرار الدواء، وتجاهل الدراسات الميدانية التي انكشفت حول هذه القضية. ومن هذه الأدلة سحب الدواء من أسواق بعض الدول الأوروبية مثل سويسرا وإسبانيا وإيطاليا في الفترة ما بين عام 1997 و 2004، إضافة إلى سحبه في التسعينيات من القرن المنصرم من أسواق الولايات المتحدة الأمريكية بعد أن تأكد بأن أضراره تفوق فوائده، وأن آثاره الجانبية تزيد على منافعه. كذلك من الإثباتات الطبية على إفساد الدواء للقلب هي الدراسات الإكلينيكية التي قامت بها الطبيبة الفرنسية التي أطلقت بكل جرأة وشجاعة صفارة الإنذار، وأكدت بأن هناك علاقة بين أخذ الدواء والإصابة بأمراض القلب، وبالتحديد المتعلقة بصمامات القلب(heart valve disease).

وقد قامت رئيسة المحكمة الجنائية بإصدار حكمها في وثيقة مكونة من 1988 صفحة، ولخصت قرارها النهائي قائلة:" بالرغم من معرفة شركة "سيرفير" للمخاطر الناجمة عن استخدام الدواء لسنوات طويلة، إلا أنها لم تتخذ أبداً الإجراءات الضرورية لمنع هذه المخاطر، ولذلك فهي مذنبة بخداع الناس"، كما صرحت بأن تجاوزات هذه الشركة غير المسؤولة "ضعَّفتْ الثقة بالنظام الصحي". وبناءً عليه فقد أُدينت الشركة بهذه الفضيحة الطبية الأخلاقية بتهمتين، الأولى هي "القتل غير العمد"، والثانية "التحايل والغش"، كما تم تغريم الشركة مالياً بمبلغ قرابة  2.7 مليون يورو، أو نحو 3.2 مليون دولار، إضافة إلى الغرامة التي فُرضت على الوكالة الحكومية للأدية والتي بلغت 303 آلاف يورو لتغطيتها ومشاركتها الشركة الفاسدة على السكوت على مخاطر الدواء، وفشلها في اتخاذ الإجراءات الحازمة والعاجلة لدرء الضرر الصحي عن الناس، كما تم الحكم بالسجن على نائب رئيس شركة صناعة الدواء.      

فهذه الحالة الفرنسية لممارسات شركات الأدوية اللاأخلاقية والفاسدة ليست فريدة من نوعها، وليست هي الأولى، ولن تكون حتماً الأخيرة، فقد نشرتُ مقالات كثيرة أفضح فيها ثقافة هذه الشركات العملاقة المتجذرة في تاريخها المبني على الربح أولاً وأخيراً وعلى حساب كل شيء آخر، سواء أكان صحة الناس، أو صحة وسلامة البيئة، ومنها المقال في أخبار الخليج في السادس من نوفمبر 2020 تحت عنوان: "الاعتراف بالذنب"، حيث اعترفت شركة "بُوردو فَارما"( Purdue Pharma) في 21 أكتوبر 2020 بذنبها ودورها في إدمان الشعب الأمريكي على حبوب الأفيون المسكنة للألم والمعروفة بأوكسي كونتين(OxyContin) وموت مئات الآلاف بسبب الإدمان عليها، وذلك من خلال التسوية التاريخية التي توصلت إليها مع وزارة العدل وبمبلغٍ كبير جداً حطم كافة الأرقام القياسية، وكسر موسوعة جينيس للأرقام القياسية المتعلقة بالغرامات التي تؤخذ على الشركات المخالفة للأنظمة والقوانين الاتحادية في الولايات المتحدة الأمريكية، وهو دَفْع مبلغ وقدره 8.34 بليون دولار أمريكي، فأقرتْ بذلك بجرائمها المتعمدة التي ارتكبتها ضد الشعب الأمريكي في بيانٍ مقتضب جاء فيه: "الشركة تُعبِّر عن أسفها العميق، وتتحمل كامل المسؤولية عن ممارساتها الخاطئة التي جاء تفصيلها من قبل وزارة العدل". وهذه الشركة لم تعمل لوحدها فقد كانت شريكة في هذه الجريمة مع شركة استشارية كبيرة تُقدم لها الأفكار والحيل الشيطانية من أجل تحقيق المزيد من الكسب الحرام والتربح على حساب صحة الشعب، وهي شركة مكنزي التي وافقت أيضاً على تسوية نهائية مع وزارة العدل في 23 مارس من العام الجاري، ودفع مبلغ وقدره 619 مليون دولار، علماً بأن هذه الشركة الفاسدة في استشاراتها كانت تعمل كمستشارة لعدة دول خليجية وعربية.

واليوم نشهد نوعاً آخر من الممارسات اللاإنسانية من شركات الأدوية والعقاقير، وتتمثل في احتكار لقاح كورونا في الدول الغربية المتقدمة والغنية خاصة وتلقيح الشعب الغربي أولاً، ثم عرقلة أية جهود من الدول النامية والفقيرة ترمي إلى إنتاج اللقاح في هذه الدول، كما أكدت على ذلك محطة الـ بي بي سي عندما كشفت عن تقرير سري، ووثيقة مسربة حَصلتْ عليها في 20 مارس من العام الجاري. وهذه الوثيقة تؤكد بأن هناك دولاً غربية غنية ومتقدمة من ضمنها بريطانيا العظمى، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي تعمل بشكلٍ جدي على عرقلة تصنيع وإنتاج اللقاحات في الدول النامية، وتقف حجر عثرة أمام الجهود التي تبذلها الدول الفقيرة والنامية عن طريق المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة الدولية لتحويل جزءٍ من إنتاج وصناعة اللقاح إلى دولها من أجل التسريع في الإنتاج، وتلقيح شعوبها قبل فوات الأوان، ولمزيد من التفاصيل يمكن الرجوع إلى مقالي تحت عنوان:" معركة احتكار اللـقـاح المـضاد لكورونا" والمنشور في الأول من أبريل في أخبار الخليج.

فهذه الشركات تاريخياً لا ترقُب في أحدٍ إلا ولا ذمة، ولا يهمها سوى المصلحة العليا للشركة، وهي الربح الوفير، والكسب الغزير، وبأسرع وقت ممكن.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق