الاثنين، 5 أبريل 2021

تنامي وعي الحكومية الأمريكية بالإرهاب اليميني المسيحي الداخلي

لأول مرة منذ حادثة الحادي عشر من سبتمبر في الولايات المتحدة الأمريكية تغيرت وجهة بوصلة الوكالات الأمنية المسؤولة عن حفظ وحماية الأمن القومي الأمريكي فانحرفت قليلاً بعيداً عن التركيز على الإرهاب الناجم عن بعض الجماعات الإسلامية المتطرفة واتجهت هذه البوصلة الأمنية نحو الجماعات المسيحية اليمينية المتطرفة كمصدر للإرهاب، وعامل من عوامل زعزعة الاستقرار والأمن الداخلي القومي على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية.

والمؤشر الذي جعلني أؤكد على انحراف البوصلة بدرجةٍ بسيطة هو التقرير الجماعي المشترك الصادر لأول مرة من "مكتب مدير المخابرات القومية"(Director of National Intelligence) في 17 مارس من العام الجاري تحت عنوان: "التهديد المتنامي من التطرف العنيف الداخلي". وهذا التقرير جاء استجابة لتوجيهات الرئيس الأمريكي بايدن لكافة الوكالات والجهات المعنية بالأمن القومي للقيام بإجراء تقييمٍ شامل حول الجماعات اليمينية المسيحية المتطرفة وعن مصادر الإرهاب الداخلي المحلي، إضافة إلى تقييم حادثة حصار مبنى الكونجرس، حيث تم رفع التقرير إلى البيت الأبيض في الأسبوع الأول من مارس، ثم رُفعت عنه السرية ونُشر في وسائل الإعلام الأمريكية.

وتأتي قوة مضمون هذا التقرير، ومصداقية محتواه في أن هذا التقرير والتقييم للأمن الداخلي من الجماعات المتشددة لم تكتبه وكالة أمنية أمريكية واحدة منفصلة عن الوكالات الأخرى، ولكنه نُشر كمجهود جماعي مشترك، حَمَل معه كافة وجهات النظر والآراء والتقييمات المختلفة من جميع الجهات المعنية، وبالتنسيق والتعاون مع الوزارات الحكومية كوزارة العدل ووزارة الأمن الداخلي. ومن الوكالات الأمنية التي ساهمت في إعداد التقرير هي المركز القومي لمكافحة الإرهاب، ومكتب التحقيقات الفيدرالية، ووكالة المخابرات المركزية، ووكالة مخابرات الدفاع.

وقدر وَردتْ في الملخص التنفيذي للتقرير عدة نقاط جوهرية مهمة ومحورية في قضية التهديدات الناجمة عن "الإرهاب الداخلي" وأهم مصادره على المستوى الاتحادي، ومنها ما يلي:

أولاً: المتشددون المحليون العنيفون(Domestic Violent Extremists) يُشكلون "تهديداً كبيراً" لأمن واستقرار البلاد، وهؤلاء يمثلون عدة مجموعات منها الجماعات المسيحية اليمينية، وجماعات تفوق العرق الأبيض، والميليشيات المسلحة، إضافة إلى الجماعات المؤمنة بنظرية مؤامرة كُيو أنُون التي تنشر الكثير من المعلومات المضللة والكاذبة والغريبة، ومنها أخيراً بأن الانتخابات الرئاسية في نوفمبر 2020 كانت مزورة على مستوى الولايات المتحدة الأمريكية، علماً بأن جميع الأدلة والوثائق الميدانية، إضافة إلى كل الأحكام القضائية لم تقف مع هذه الادعاءات. كما أضاف التقرير بأن دوافع هذه المجموعات للقيام بالأعمال الإرهابية العنيفة قد تكون عنصرية، أو عرقية، أو تحدي الإجراءات الحكومية المتعلقة بفيروس كورونا، أو  كُره الحكومة الاتحادية. وعلاوة على هذا الاستنتاج الذي تمخض عن التقرير فقد أكد رئيس لجنة المخابرات في مجلس النواب في الكونجرس(House Intelligence Committee)، الديمقراطي أدم شيف(Adam Schiff) بأن "التشدد العنيف الداخلي يُعد التهديد الأخطر الذي نواجهه بالنسبة للأمن القومي"، كما أضاف قائلاً بأن هذا التهديد "يبدو جلياً من الهجمات الإرهابية الداخلية المتزايدة في السنوات الماضية".

ثانياً: جماعات تفوق العرق الأبيض الأمريكية لها اتصالات مباشرة مستمرة وتأثير متبادل مع مجموعات تؤمن بالفكر نفسه في دول أخرى، وبالتحديد في أوروبا وأستراليا، مثل الجماعات اليمينية المسيحية القومية، أو جماعات النازيون الجدد، كما أن بعض الأفراد الأمريكيين الذين ينتمون إلى الجماعات اليمينية قد سافر إلى أوروبا للاتصال والتواصل والتشاور مع هذه المجموعات الأوروبية.

وقد أكد على هذه الاستنتاجات العامة التي وردت في التقرير الجماعي الأمني المشترك، كريستوفر راي(Christopher Wray) رئيس مكتب التحقيقات الفيدرالي في جلسة الاستماع لمجلس الشيوخ في الأول من مارس من العام الحالي أمام اللجنة القضائية(Senate Judiciary Committee)، حيث قال بأن المكتب "يصنِّف احتجاز واقتحام مبنى الكابيتال بأنه إرهاب محلي، وليس له مكانه في ديمقراطيتنا، وتَحمُل مثل هذا العمل يُعد سخرية لحكم القانون في أمتنا"، كما أضاف بأن "حادثة السادس من يناير ليست فردية، فمشكلة الإرهاب الداخلي تنمو وتتفاقم في كل أنحاء البلاد لفترة طويلة من الزمن ولن تزول في القريب العاجل"، واختتم شهادته قائلاً: "التهديدات ذات الأولوية هي من التطرف العنيف مثل آيسِس(تنظيم الدولة الإسلامية) والتشدد العنيف الداخلي".

فهذه الشهادات والتقارير الأمنية تؤكد بما لا يدع أي مجال للشك بأن الولايات المتحدة الأمريكية تعاني من تهديدات الإرهاب الداخلي من اليمين المسيحي المتطرف بدرجة أكبر حالياً من خطورة بعض الجماعات التي تدعي بأنها إسلامية. ولكن السؤال الذي أطرحه الآن هو: هل هذا التهديد الإرهابي الداخلي وليد الساعة؟ وهل خرج فجأة على السطح فأيقظ الوكالات الأمنية إلى خطورتها على الأمن القومي؟

فمن خلال متابعاتي لملف الجماعات المسيحية اليمينية المتطرفة، وبالتحديد منذ أكثر من خمسة سنوات، توصلتُ إلى نتيجة عامة واحدة مفادها أن هذه الجماعات كالخلايا النائمة، فهي متغلغلة ومتجذرة في أعماق المجتمع الأمريكي، سواء في الأجهزة الأمنية(تقرير مكتب التحقيقات الفيدرالي المنشور من قسم مكافحة الإرهاب في 17 أكتوبر 2006 تحت عنوان: "اختراق جماعات تفوق العرق الأبيض للأجهزة الأمنية")، أو المنظمات الاجتماعية، وهي موجودة وأصيلة منذ تأسيس الولايات المتحدة الأمريكية، وبخاصة جماعات تفوق العرق الأبيض، وتُعد جزءاً رئيساً من مكونات هذا المجتمع. ولكن نشاط هذه الجماعات ونموها وبروزها في المجتمع يكون بين مدٍ وجزر، ويتفاوت بين الحين والآخر، معتمداً على قوة الغطاء السياسي الذي يوفره لهذه الجماعات، ونفوذ هذا الغطاء على المستوى التشريعي، والتنفيذي، والأمني.

فعلى سبيل المثال، كانت جماعات تفوق العرق الأبيض، والميلشيات المسلحة، والمؤمنون بنظرية مؤامرة كيو أنون قبل عهد ترمب يعيشون بسلام وهدوء وهدنة طويلة الأمد مع المجتمع بشكلٍ عام، والمعتقدات والأفكار التي يؤمنون بها كانت تُنشر في منصات التواصل الاجتماعي في جنح الظلام وبحياءٍ وسرية، ولكن مع دخول ترمب إلى البيت الأبيض، بدأت هذه الجماعات ترى النور من جديد، وتُسلط عليها الأضواء من بعض وسائل الإعلام المسيحية اليمينية المحافظة، فتفتخر أمام الملأ وتعتز بأفكارها المتطرفة، بل وترتكب دون أي تردد أو خوف أعمالاً إرهابية عنيفة، وفي كل هذه الحالات كان ترمب يتستر عليها، أو لا يدينها، بل وفي بعض الأحيان يحرض على ارتكابها ويمتدح منفذيها، حتى بلغت ذروتها في اقتحام واحتلال بيت الديمقراطية في السادس من يناير من العام الجاري. وقد حاولت الوكالات الأمنية ووزارت الدولة المعنية مثل وزارة الأمن الداخلي التحذير من هذه الجماعات والتهديدات التي تمثلها لأمن المجتمع، وفي كل حالة يحاول ترمب إما تأجيل أو تأخير نشر هذه التقارير، أو في الأقل تغيير صياغتها ومنع إدانة هذه الجماعات اليمينية المتشددة والتقليل من خطورتها، أو تحويل محتوى التقرير من التركيز على هذه الجماعات إلى التركيز على جماعات اليسار(Antifa).   

ولكن مع وصول بايدن إلى البيت الأبيض، إضافة إلى حادثة حصار مبنى الكونجرس، كان ليس بالإمكان تجاهل هذه الجماعات اليمينية العنيفة المتطرفة المسؤولة عن حادثة مبنى الكونجرس وحوادث كثيرة أخرى سابقة، وكان لا بد من نشر الحقائق إلى المجتمع الأمريكي، وبيان الوقائع أمام الشعب، ولذلك جاء التقرير الشامل المتكامل والجماعي من كل الوكالات الأمنية ليُقدم استنتاجاً واحداً لا ريب فيه وهو أن جماعات اليمين المسيحي المتطرف تُعد جماعات إرهابية، وتشكل التهديد الداخلي الأول للأمن القومي الأمريكي.

 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق