الأربعاء، 31 مارس 2021

احتكار اللقاح

لم استغربْ بتاتاً عندما قرأتُ وسمعت خبراً سرياً بثته القناة الإخبارية العريقة بي بي سي، حيث كشفت الـ بي بي سي عن تقرير سري، ووثيقة مسربة حَصلتْ عليها في 20 مارس من العام الجاري، وهذه الوثيقة تؤكد بأن هناك دولاً غربية غنية ومتقدمة من ضمنها بريطانيا العظمى، والولايات المتحدة الأمريكية، والاتحاد الأوروبي تعمل بشكلٍ جدي على عرقلة تصنيع وإنتاج اللقاحات في الدول النامية، وتقف حجر عثرة أمام الجهود التي تبذلها الدول الفقيرة والنامية عن طريق المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية ومنظمة التجارة الدولية لتحويل جزءٍ من إنتاج وصناعة اللقاح إلى دولها من أجل التسريع في الإنتاج، وتلقيح شعوبها قبل فوات الأوان.

 

فشركات صناعة الأدوية الكبرى وغيرها من شركات متعددة الجنسيات هي التي تحكم العالم، وهي التي تسيطر على قرارات الكثير من الدول، وتُعد كجماعات الضغط تُسيِّر سياسات الدول وبرامج أعضاء السلطات التشريعية في البرلمانات نحو سياساتها ومصالحها العليا، ولذلك فإن قواعد هذه الشركات لا تقوم على أسس إنسانية، ولا توجد بها مبادئ أخلاقية سامية تحكم أعمالها وسلوكياتها، فهي تهدف أساساً إلى تحقيق الربح السريع والكبير وعلى حساب كل شيء إرضاءً لأعضاء مجالس الإدارات، وزيادة في أعداد المساهمين. ومن أدوات الربح السريع والعظيم هي احتكار تصنيع المنتجات المتخصصة جداً في مسقط رأس الشركة في الدول الثرية والغنية. وعلاوة على ذلك فإن هذه الشركات تُبرر عدم السماح للدول النامية في إنتاج الأدوية عامة، ولقاح فيروس كورونا خاصة في أنها تمتلك حق الملكية لتقنيات التطوير، إضافة إلى استثمارها لملايين الدولارات في عملية التصميم والتطوير والإنتاج والتصنيع، كما أن لها حقوق براءات الاختراع في هذه التقنيات التي أنفقت الكثير على الأبحاث الخاصة بها. وبهذه الحجة تكون هذه الشركات تقليدياً محتكرة أصلاً للمعلومة العلمية والفنية والتقنية(know-how)، وتتمتع دائماً بحصانة حصرية الإنتاج والتوزيع والتسويق، ووضع السعر المناسب للشركة لكل منتج يصدر منها.

 

وبالتالي لا غرابة أن شركات الأدوية التي تطور وتنتج اللقاح الخاص ضد كورونا ستضغط على حكومات الدول التي تعمل فيها، وبالتحديد الدول الغربية أن تدعمها في "احتكار اللقاح" في المحافل الدولية تحت أي مبرر والمبررات كثيرة، وأن تساندها في عرقلة ومنع كافة المقترحات ومشاريع القرارات الخاصة بتقديم المساعدة للدول الفقيرة والنامية لإنتاج اللقاح محلياً، أي في هذه الدول المستضعفة من أجل التسريع في توزيعها على شعوبها.

 

وقد نشرت صحيفة الواشنطن بوست الأمريكية تحقيقاً في 21 مارس من العام الجاري تحت عنوان: "شركات الأدوية تدافع عن اتهامها باحتكار اللقاح"، حيث ألقى هذا التحقيق الضوء على عدة نقاط تؤكد واقعية سعي شركات العقاقير وإنتاج اللقاح إلى تأمين إنتاجها تحت إمرة شركاتهم وفي دولهم دون ترحيلها إلى دول العالم الثالث. ومن هذه النقاط أن شركات من بنجلادش، ومنها بالتحديد "إنسبتا"(Incepta) أرسلت عدة خطابات إلى كبريات الشركات المصنعة للقاح مثل موديرنا، وجونسون أند جونسون، ونوفافاكس(Novavax) تُقدم فيها الشركة البنغالية قدرتها الفنية والتقنية على إنتاج 600 مليون إلى 800 مليون جرعة في السنة لتوزيعها في القارة الآسيوية، ولكنها لم تتلق أي رد من هذه الشركات الغربية.

والنقطة الثانية التي وردت في التقرير هي إرسال الشركات الأمريكية الكبرى المنتجة للقاح خطاباً إلى الرئيس الأمريكي بايدن تضغط فيه على الرئيس لتفهم وجهة نظرهم بالنسبة لعدم الموافقة على إنتاج اللقاح في الدول الفقيرة، ودعوتهم للرئيس على الوقوف معهم رسمياً لمنع منظمة التجارة العالمية أن تتخذ قراراً دولياً لرفع الحماية عن براءات الاختراع للقاحات الجديدة في الحالات الطارئة، مما يسمح عندئذٍ الدول النامية إلى إنتاجها محلياً في دولهم.

وفي هذا الإطار حاولت منظمة الصحة العالمية كسر احتكار هذه الشركات الجشعة التي تلهث وراء جمع المال ومساعدة الدول النامية لإنتاج اللقاح في الدولة نفسها، فطرحت مبادرة دولية وأنشئت برنامجاً دولياً لإشراك كافة الدول في تقنية إنتاج اللقاح، تحت مسمى الاتاحة الجماعية لتقنية كوفيد_19(COVID-19 Technology Access Pool) ولكن، كما هو متوقع، لم تتجاوب الشركات المنتجة للقاح بصورة إيجابية، ولم توافق  في الانضمام إلى هذه المبادرة والمشاركة في البرنامج الإنساني.

كذلك قامت المنظمة بمحاولة أخرى لوضع قيود غير مباشرة على هذا الاحتكار، وتتمثل في طرح مبادرة أممية تساعد الدول النامية والفقيرة على الحصول على اللقاح تحت مسمى كوفاكس، أو الوصول العالمي للقاحات فيروس كورونا(Vaccines Global Access Facility)(Covax)، أي أن يكون اللقاح ميسراً ومتاحاً بشكلٍ عادل ومنصف للجميع، وبخاصة لشعوب الدول النامية والفقيرة، من خلال الشراء الجماعي للقاح، ويدير هذا البرنامج تحالف اللقاحات الدولي(Global Vaccines Alliance) أو جافي(Gavi). وهذه المبادرة أيضاً لم يكتب لها النجاح المشهود لسببين رئيسين. الأول عدم توافر المال الكافي لشراء اللقاحات لجميع الدول المعنية، حيث أن هناك الكثير من الدول التي لم تحصل حتى اليوم على جرعة واحدة من أي نوع من اللقاح وعليها الانتظار طويلاً وتجرع كأس الموت من هذا الفيروس العقيم، وثانياً عدم وجود اللقاح في الأسواق، حيث إن الدول المتقدمة حجزت حصة الأسد مقدماً لجميع اللقاحات ودفعت قيمتها وبأسعار تفضيلية رخيصة، حتى قبل إنتاجها، ومنهم من اشترى لقاحات أكثر من حاجة السكان، كما حدث في كندا الولايات المتحدة الأمريكية حسب المقالين المنشورين في مجلة الأمة الأمريكية(The Nation) في 22 مارس تحت عنوان: "عدم عدالة النزعة القومية للقاح"، وفي 25 مارس من العام الجاري تحت عنوان: "لقاح كوفيد: شركات الأدوية الكبرى تربح بينما دول الجنوب تنتظر".

 

وقد حذرت منظمة الصحة العالمية قبل أشهر من وقوع هذه الكارثة الإنسانية الأخلاقية التي ليست هي الأولى من نوعها، حيث إن الدول الغنية والمتقدمة نفسها هي التي رفضت في التسعينيات من القرن المنصرم السماح لدول العالم الثالث إنتاج اللقاح ضد فيروس الإيدز لمنع موت عشرات الآلاف من البشر في أفريقيا خاصة، ففي 18 يناير 2021 نبه مدير المنظمة قائلاً: "أحتاج أن أكون حاداً، فالعالم على حافة كارثة الفشل الأخلاقي، وثمن هذا الفشل سيدفعه الناس بأرواحهم في الدول الأشد فقراً"، فكما هو واضح ومشهود هو أن الدول الغنية المتطورة احتكرت توزيع اللقاح من خلال تبني سياسة قومية وأنانية هي "أنا أولاً"، أي أن صحة الغني والثري تأتي قبل صحة الفقير والضعيف وربما الأكثر حاجة للقاح!

 

فعلى شعوب دول العالم الثالث أن تنتظر دورها في مؤخرة القائمة، وربما سيطول انتظارها كثيراً حتى تفرغ الدول الغنية والمتقدمة من تلقيح شعوبها، ومثل هذه الحالات المأساوية المتكررة من المفروض أن تلزم الدول النامية إلى الاهتمام بالعلماء والبحث العلمي والتوجه نحو التصنيع والإنتاج المحلي حتى لا نظل عالة نمد أيدينا إليهم.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق