الخميس، 4 مارس 2021

لماذا يخاف الأمريكي من أصول أفريقية من أخذ اللقاح؟


تمر على الأفراد والأمم والشعوب كوارث عصيبة، وكروب عظيمة، وحوادث مؤلمة، فمنها الزمنُ كفيل بمحوها ونسيانها وذهابها مع الريح وكأنها لم تقع أبداً، ومنها ما تستمر ذكريات عقيمة خالدة مخلدة في نفوس الناس، ومنقوشة ومحفورة عميقة في قلوبهم، فتتوارث الأجيال، جيلاً بعد جيل فتئن من شدة آلامها ومعاناتها، وتبقى صورها القاسية أبد الدهر في كتب التاريخ وتتخذ فيها موقع الصدارة والخلود على صدر صفحاتها الأولى.

 

ومن هذه الحوادث المؤلمة التي وقعتْ قبل قرابة تسعة عقود، والتي مازالت حية تنبض بالروح والحياة أمام من عانوا منها وقاسوا من ويلاتها، ومازالت صورها مشهودة أمام الأجيال اللاحقة التي جاءت من بعدهم، وتتلخص هذه الحادثة في استخدام الحكومة الأمريكية الفيدرالية للمئات من المواطنين الأمريكيين من الفقراء والمستضعفين وغير المتعلمين من السود من أصول أفريقية كفئران تجارب لمتابعة ومراقبة تداعيات مرض السفليس على أجسادهم حتى آخر رمق من أرواحهم، ودون السماح لهم للعلاج من المرض في أي مستشفى في الولاية، بل وتوجيه كافة المراكز الصحية الحكومية إلى الامتناع عن تقديم المساعدة لهم في علاج هذا المرض الجنسي الخطير.

 

فقد كشفت الوثائق التاريخية الطبية التي رُفع الستار عن سريتها أن الحكومة الأمريكية الاتحادية، ممثلة في "خدمات الصحة العامة"( U.S. Public Health Service)بالتعاون مع معهد تَسْكجي،  قد قامت ببحوث سرية تحت عنوان: "دراسة تسكيجي للسفلس" (Tuskegee syphilis study)، وأطلقتْ عليها اسماً يفوح منه رائحة العنصرية النتنة والفاسدة، وتنبعث منه روح الإهانة والاستصغار، وهو "دراسة لمرضى السفلس من ذكور النيجرو"(Study of Untreated Syphilis in the Negro Male)، فاستغلوا 623 من فقراء السود ومن المعدومين المصابين بمرض السفلس الساكنين في مدينة تسكجي الريفية الفقيرة في ولاية ألباما في الفترة من 1932 إلى 1972 وأغروهم بتقديم وجبات مجانية ورعاية صحية لهم مقابل إجراء بعض التجارب عليهم، ولكن دون معرفتهم بالأهداف الخبيثة غير الأخلاقية لهذه الدراسة. فقد تَركوهم فئران التجارب عمداً لأكثر من 40 عاماً دون علاج لآلامهم الشديدة من مرض السفليس الذي يعانون منه، بالرغم من توفر العلاج وهو المضاد الحيوي المعروف، البنسلين، وذلك من أجل التعرف على أعراض المرض في مراحله المختلفة منذ البداية حتى الساعات الأخيرة قبيل خروج الروح من جسد هؤلاء المرضى.

 

ونظراً لوقع هذه الحادثة العصيبة على المجتمع الأمريكي برمته ومردوداتها الفظيعة على نفوس الناس من المتضررين منها ومن غير المتضررين بشكلٍ مباشر، فقد أعلن الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون اعتذاره أمام الملأ عن ما ارتكبتها أيدي بعض الأجهزة الحكومية الصحية الآثمة تجاه هؤلاء البشر من المواطنين، حيث أعلن في 16 مايو 1997 عن هذه الجريمة البشعة غير الأخلاقية أمام ثمانية من الضحايا الذين عانوا منها، وكانوا في ذلك الوقت على قيد الحياة، فقال: "إن حكومة الولايات المتحدة الأمريكية قامت بشيء خاطئ.. خاطئ أخلاقياً وبشدة، ويتنافى مع التزامنا بالنزاهة والمساواة بين جميع المواطنين"، وأضاف بأن ما قامت به حكومة الولايات المتحدة الأمريكية كان مخجلاً وأنا آسف. كما قامت الحكومة الأمريكية، اعترافاً منها بهذه الجريمة النكراء بإنشاء مركزٍ قومي تحت إسم "مركز تاريخ تسكجي" يخلد هذه الصفحة المظلمة من تاريخ أمريكا التي تحكي ظلم الإنسان لأخيه الإنسان، وتُقدم مثالاً حياً على جَور الحكومات على شعوبها واستغلالها لضعف وفقر وجهل فئات بسيطة من الشعب، إضافة إلى سن قانونٍ اتحادي يمنع الجميع من أفراد وحكومات في الولايات المتحدة الأمريكية من إجراء تجارب مشابهة.

 

فهل بعد هذه التجربة الأليمة المفزعة التي أُجريت على سكان هذه المدينة الصغيرة التي يبلغ سكانها الآن نحو 8000 نسمة، وكلهم من السود، يلوم أحد مجتمع الأمريكيين من أصول أفريقية، سواء في هذه المدينة المتضررة، أم من المدن والولايات الأخرى إذا ترددوا، أو عزفوا عن أخذ جرعات لقاح فيروس كورونا؟

 

فعدم الثقة بنوايا الحكومات الأمريكية متجذر بعمق وبشدة في ذاكرة السود الأمريكيين عبر التاريخ، وهذه الشكوك التي تملأ نفوسهم وتؤجج عواطفهم نابعة بصدق من تاريخٍ أسود طويل عانوا منهم قرابة أكثر من قرنين ونصف القرن من الزمن. فالعبودية انتشرت وتغلغلت في الولايات الجنوبية خاصة لعقودٍ طويلة من الزمن، ومعاناتهم العصيبة من هذا الإذلال المشين لا يمكن أن تُنسى ولا تغتفر، وكتب التاريخ الحديث تشبعت صفحاتها بقصصٍ واقعية مروعة ومخجلة قام بها بعض البيض الحاقدين وحكومات بعض الولايات ضد هؤلاء العبيد من أصول أفريقية.

 

وفي المقابل هناك العنصرية البغيضة والتمييز على أساس لون البشرة الذي لم ينته بعد في الولايات المتحدة الأمريكية جمعاء بالرغم من كثرة القوانين والأنظمة التي ترفض هذه النظرات الرجعية غير الحضارية وغير الأخلاقية للبشر، وكلما أردنا أن ننسى مظاهر العنصرية في أمريكا، وقعت حادثة جديدة أحيت عندنا واقعية هذه العنصرية وتجذرها في المجتمع الأمريكي. كما أن هناك من جانب آخر قضية "العنصرية البيئية" أو "العدالة البيئية" المتمثلة في وجود المصانع الملوثة للبيئة، ومواقع دفن المخلفات الخطرة، وغيرها من مصادر تلوث الهواء القاتلة للبشر، فكلها قابعة في مجتمعات السود والأقليات الفقيرة والمستضعفة والتي لا نفوذ سياسي أو مالي لها.

 

فكل هذه العوامل والخبرات القاسية، والتجارب المريرة السابقة والحالية اجتمعت مع بعض وتراكمت عبر السنين وألقت بظلالها السوداء المشؤومة على نفس المواطن الأمريكي من أصول أفريقية، فجعلته لا يثق بالحكومة الأمريكية، ويشكك دائماً في نواياها ومصداقيتها، وبالتحديد بالنسبة لأخذ اللقاح ضد كورونا. فقد أفاد "المركز القومي للأخلاقيات الحيوية"(National Center for Bioethics)الذي أسسته الحكومة الاتحادية في جامعة تسكجي بأن 50% من السود الذين تم استطلاع آرائهم، ليست لديهم نية في التطعيم، أو أنهم يشككون في صدق الحكومة في العمل لمصلحتهم.

 

فبعد كل هذا التاريخ الأسود الذي يحكي معاناة السود في أمريكا لأكثر من قرنين، هل سيتخذ الأمريكي من أصول أفريقية موقفاً إيجابياً هذه المرة من أخذ اللقاح، فيُلقي بهذا التاريخ العقيم وراء ظهره، ويفتح صفحة جديدة؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق